الرئيسية - التفاسير


* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } * { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ } الآية فيها حثٌّ من الله سبحانه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد وشدة من الحر [حين] فأحرقت النخل وطابت الثمار وعظم على الناس غزوة الروم، وأحبّوا الظلال والمقام في المسكن والمال، فشقّ عليهم الخروج إلى القتال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّ ماخرج في غزوة الاّ كنّى عنها وورّى بغيرها إلا غزوة تبوك لبُعد شقتها وكثرة العدو ليتأهب الناس وأمرهم بالجهاد، وأخبرهم بالذي يريد، فلمّا علم الله تثاقل الناس، انزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا مالكم أي شيء أمركم { إِذَا قِيلَ لَكُمُ } إذا قال لكم رسول الله { ٱنفِرُواْ } اخرجوا { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } وأصل النفر مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج على ذلك، فقالت نفر فلان إلى ثغر كذا، ينفر نفراً ونفوراً، ومنه نفور الدابة ونفارها { ٱثَّاقَلْتُمْ } تباطأتم.

قال المبرّد: أخلدْتم { إِلَى ٱلأَرْضِ } ومعناه: لزمتم أرضكم ومساكنكم، وأصله تثاقلتم فأُدغمت التاء في الثاء وأخرجت لها الف يوصل إلى الكلام بها حين الابتداء بها، كقولهحَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا } [الأعراف: 38]وقالوا: اطّيرنا وأرجفت، العلاء والكسائي.
تولى الضجيج إذا ما اشتاقها خضرا   عذب المذاق إذا ما اتابع القبل
أي إذا تتابع.

{ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ } أي أرضيتم الدنيا ودِعتها عوضاً من نعيم الآخرة وثوابها { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } ثم أوعدهم على ترك الجهاد { إِلاَّ تَنفِرُواْ } وقرأ عبيد بن عمير تنفروا بضم الفاء وهما لغتان { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } في الآخرة، وقيل: هو احتباس القطر عنهم، سُئل نجدة بن نفيع عن ابن عباس عن هذه الآية فقال: " إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حياً من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر فكذلك كان عذابهم " { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } خيراً منكم وأطوع، قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس، وقال أبو صلاح: هم أهل اليمن { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } بترك النفير { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } هذا إعلام من الله أنه هو المتكفّل بنصر رسوله وإظهار دينه أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره حين كان أولياؤه قليلاً وأعدائه كثيراً، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدّة فقال عزّ من قائل: إلاّ تنفروا أيها المؤمنون إذا استنفركم، ولا تنصروه إذا استنصركم فالله يعينه يعوّضه عنكم كما نصره { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }.

وقيل: [معناه]: إن لم تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا من مكة حين مكروا به وأرادوا [إخراجه] وهموا بقتله { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } نصب على الحال، وهو أحد الاثنين، والاثنين رسول الله وأبو بكر الصديق { إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ } وهو نقب في جبل بمكة يقال له ثور { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } أبي بكر رضي الله عنه { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } للعون والنصرة، ولم يكن حزن أبي بكر ح جبناً منه ولا سوء ظن وإنما كان اشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّ عليه أنه قال: يارسول الله إن قتلتُ فأنا رجل واحد، وإن قتلتَ هلكت الأُمة.

السابقالتالي
2 3