الرئيسية - التفاسير


* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق


{ أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } * { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } * { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَٰنِهَا خَيْراً قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } * { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } * { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ أَن تَقُولُوۤاْ } يعني [لئلاّ] تقولوا كقولهيُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [النساء: 176] وقوله:قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ } [المائدة: 19] يعني أي لا تقولوا يعني لئلاّ تقولوا.

وقيل: معناه أنزلناه كراهة أن يقول، وقال الكسائي: معناه: اتقوا أن تقولوا: يا أهل مكّة، وقرأ ابن محيصن والأعمش كلاهما والقراءة بالياء بقوله تعالى فقد جاءكم { إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } يعني اليهود والنصارى { وَإِن كُنَّا } وقد كنّا { عَن دِرَاسَتِهِمْ } قرأتهم { لَغَافِلِينَ } لا نعلم ما هي وإنَّما قال: دراستهم، ولم يقل: دراستهما، لأن كل طائفة جماعة، كقوله تعالىهَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ } [الحج: 19] وأن ما يقال من المؤمنين اقتتلوا. { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ } يعني أصوب من اليهود والنصارى ديناً { فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } حجّة واضحة لمن يعرفونها { وَهُدًى } وبيان { وَرَحْمَةٌ } ونعمة لمن اتبعه وعمل به { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ } وأعرض عنها { سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } شدة العذاب { بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } يعرضون { هَلْ يَنظُرُونَ } وينتظرون { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } لقبض أرواحهم { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } بلا كيف لفصل القضاء من خلقه في موقف القيامة، وقال الضحاك: يأتي أمره وقضاؤه { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } يعني طلوع الشمس من مغربها { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا } وقرأ ابن عمر وابن الزبير: يوم تأتي بعض آيات ربّك بالتاء، قال المبرّد: على التأنيث على المجاورة لا على الأصل، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه. قال جرير:
لمّا أتى خبر الزبير تواضعت   سور المدينة والجبال الخشع
فأتت فعل السور، وهو مذكّر لاتصاله بمؤنّث.

روى عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورأها الناس آمنوا أجمعين وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها { لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ } " الآية.

وروى مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا غربت الشمس رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع إلى مغربها أو من مطلعها [فكسى] ضوؤها، وإن كان القمر منوّر على مقادير ساعات الليل والنهار ثمّ ينطلق بها ما بين السماء السابعة العليا وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر [جبال] المشرق من سماء إلى سماء، فإذا ما وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح ويضيء النهار فلا يظل الشمس والقمر، كذلك حتّى يأتي الوقت الذي وقت الله التوبة لعباد وتكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش كلما سجدت وأستأذنت من أن تطلع لم يجىء لها جواب حتّى يراقبها القمر [فيجيء معها] ويستأذن من أن تطلع فلا يجاب لهما بجواب حتّى تحبسا مقدار ثلاث ليالي للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليالي إلاّ المتهجّدون في الأرض، وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين في هوان من الناس وذلّة من أنفسهم، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي، ثمّ يقوم ويتوضّأ ويدخل مصلاّه فيصلّي ورده، فلا يصبح نحو ما كان يصبح كلّ ليلة فينكر ذلك فيخرج فينظر إلى السماء فإذا هو بالليل فكأنه والنجوم قد استدارت مع السماء فصارت إلى أماكنها من أول الليل، فينكر ذلك ويظن فيها الظنون فيقول: قد خففت قراءتي وقصرت صلواتي أم قمت قبل حيني.

قال: ثمّ يقوم فيعود إلى مصلاّه فيصلّي نحو صلاته الليلة الثانية ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج أيضاً فإذا بالليل مكانه فيزيده ذلك إنكاراً ويخالطه الخوف ويظن في ذلك الظنون من السوء، ثمّ يقول فلعلّي قصّرت صلواتي ثمّ خفّفت قراءتي [أم قمت] في أوّل الليل ثمّ يعود وهو وجل مشتت خائف لما توقّع من هول تلك الليلة فيقوم فيصلّي أيضاً مثل [ورده] كلّ ليلة قبل ذلك، ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج الثالثة فينظر إلى السماء فإذا بالنجوم قد استدارت مع السماء فصارت في أماكنها عند أوّل الليل فيشفقه عند ذلك شفقة المؤمن العارف لما كان يحذر فيستحييه الخفّة ويستخفّه الندامة، ثمّ ينادي بعضهم بعضاً وهم كانوا قبل ذلك يتعارفون ويتواصلون فيجتمع المتهجدون من كل بلدة في تلك الليلة في مسجد من مساجدهم ويجأرون إلى الله تعالى بالبكاء ويصلّوا بقيّة تلك الليلة.

فإذا ما تمّ لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله إليهما جبرائيل فيقول: إنّ الرب تبارك وتعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه وإنّه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيبكيان عند ذلك وَجَلا من الله عزّ وجلّ وخوف يوم القيامة بكاءً يسمعه أهل سبع سماوات ومن دونها وأهل سرادقات العرش وحملته ومن فوقهما، فيبكون جميعاً لبكائهما من خوف الموت والقيامة، فيرجع الشمس والقمر فيطلعان من مغربهما فبينما المتهجّدون يبكون ويتضرّعون إلى الله عزّ وجلّ، والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد: ألا إن الشمس والقمر قد طلعا من المغرب فينظر الناس فإذا هم بهما أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [القيامة: 9] وقوله { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [التكوير: 1] فيرتفعان كذلك مثل البعيرين القرنين يُنازع كلّ واحد منهما صاحبه اشتياقاً، ويتصايح أهل الدنيا وتدخل الأُمّهات على أولادها والأحبّة عن غمرات قلوبها، فتشتغل كلُّ نفس بما ألّمها، فأمّا الصالحون والأبرار فإنّه ينفعهم بكاؤهم يومئذ فيكتب لهم ذلك عبادة، وأمّا الفاسقون والفُجّار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب ذلك حسرة عليهم فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرّت السماء وهي منصفها جاءهما جبرائيل (عليه السلام) فأخذ بقرونهما فردّهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة ".

فقال له عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله وما باب التوبة؟

فقال صلى الله عليه وسلم: " يا عمر خلق الله تعالى باباً للتوبة خلف المغرب له مصراعان من ذهب مكلّلان بالدرّ والجوهر ما بين المصراع إلى المصراع الآخر أربعون سنة للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحاً منذ خلق الله آدم إلى ذلك اليوم إلاّ ولجت تلك التوبة في ذلك الباب. لم يرفع إلى الله تعالى ".

فقال له معاذ بن جبل: بأبي أنت وأُمي يا رسول الله وما التوبة النصوح؟

قال: " أن يندم المذنب على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله عزّ وجلّ ثمّ لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع.

قال: فيغربهما جبريل في ذلك الباب ثمّ يرد المصراعين ثمّ يلتئم ما بينهما فيصير كأنّه لم يكن بينهما صدع قط، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل من العبد بعد ذلك توبة ولم ينفعه حسنة يعملها في الإسلام، إلاّ مَنْ كان قبل ذلك مُحسناً فإنّه يجري عليه ما كان يجري عليه قبل ذلك اليوم فذلك قوله عزّ وجلّ { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَانِهَا خَيْراً }.

فقال أُبي بن كعب: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر يومئذ بعد ذلك وكيف بالناس والدنيا. فقال: " يا أُبي إنّ الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثمّ يطلعان على الناس ويغربان، كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان، فإنّ الناس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية يلحون على الدنيا حتّى يجروا فيها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار ويبنوا البنيان. وأمّا الدنيا فلو نتج لرجل مُهْراً لم يركبه حتّى تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى أن يُنفخ في الصور ".


السابقالتالي
2 3 4 5