الرئيسية - التفاسير


* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } * { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } * { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } أي فيما لا يمكنكم فيه من بسطة الأجسام، وقوّة الأبدان، وطول العمر، وكثرة المال.

{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ } يا أهل مكّة.

{ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ } كحجر ثمود، وأرض سدوم ونحوهما.

{ وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ } الحجج والبيّنات وأنواع العبر والعظات { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن كفرهم، فلم يرجعوا، فأهلكناهم، يخوّف مشركي قريش. { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ } يعني الأوثان، قال الكسائي: القربان كلّ ما يُتقرّب به إلى الله تعالى من طاعة، ونسكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين.

{ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } أي كذبهم الذي كانوا يقولون: إنّها تقرّبهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم عنده. وقرأ ابن عبّاس وابن الزبير { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } بفتح (الألف) و(الفاء) على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة { إِفْكُهُمْ } بتشديد (الفاء) على التأكيد والتفسير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عمّا كانوا عليه من النعيم. ودليل قراءة العامّة قوله: { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.

{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ } الآية. قال المفسِّرون: لمّا مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس ثقيف النصرة، والمنعة له من قومه، فروى محمّد بن أحمد عن يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي، قال: " لمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم اخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمر بن عمير، عندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.

فقال أحدهم، هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحد يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أُكلّمك كلمة أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أُكلّمك.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: " إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه ".

وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم، وعبيدهم يسبّونه، ويصيحون به، حتّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة، وشيبة ابني ربيعة، هما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف.

ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة من بني جمح، فقال لها: " ماذا لقينا من أحمائك؟ ". فلمّا اطمئن رسول الله، قال: " اللَّهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوَ ملّكته أمري. إن لم يكن بك عليَّ غضب، فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، ويحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، لا حول، ولا قوّة إلاّ بك ".

فلمّا رأى أبناء ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً، يقال له: عداس. فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا وضع رسول الله يده، قال: " بسم الله ".

ثمّ أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثمّ قال: والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. قال له رسول الله: " ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ ". قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.

فقال له رسول الله: " من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى ". قال له: وما يدريك ما يونس بن متّى؟ قال له رسول الله: " ذاك أخي، كان نبيّاً وأنا نبيّ ". فأكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّل رأسه، ويديه، ورجليه. قال: فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه، أما غلامك فقد أفسده عليك. فلمّا جاءهم عداس، قالا له: ويلك يا عداس ما لكَ تقبّل رأس هذا الرجل، ويديه، ورجليه؟ قال: يا سيّدي ما في الأرض خيرٌ من هذا، لقد خبّرني بأمر ما يعلمه إلاّ نبي. فقال: ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك، فإنّ دينك خيرٌ من دينه.

ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف، حتّى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلّي، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين اليمن، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب. قال إبليس: إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض، فبعث سراياه لتعرف الخبر، فكان أوّل بعث بُعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة، فاندفعوا حتّى بلغوا وادي نخلة، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه يصلّي صلاة الغداة، ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا إليه، وقالوا: أنصتوا. هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة من أئمّة الخبر، ورواية العوفي عن ابن عباس، وقال آخرون: بل أُمر رسول الله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى، ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفراً من الجنّ من نينوى وجمعهم له، فقال رسول الله: " إنّي أُمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني؟ " فأطرقوا ثمّ استتبعهم فأطرقوا، ثمّ استتبعهم الثالثة، فاتبعه عبدالله بن مسعود، قال عبدالله: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة دخل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له: شعب الحجون وخط إليَّ خطّاً، ثمّ أمرني أن أجلس فيه.

قال: " لا تخرج منه حتّى أعود إليك ". ثمّ انطلق حتّى قام وافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال النسور تهوي تمشي في رفوفها، وسمعت لغطاً شديداً، حتّى خفت على نبي الله، وغشيته أسورة كثيرة حالت بيني وبينه، حتّى ما أسمع صوته، ثمّ طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب داهنين، ففزغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، ثمّ انطلق إليَّ، وقال: " أنمت؟ " فقلت: لا والله لقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتّى سمعتك تقرعهم بعصاك. تقول: " اجلسوا ".

قال: " لو خرجت لم آمن أن يتخطّفك بعضهم ". ثمّ قال: " هل رأيت شيئاً؟ ". قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مسفري ثياب بيض. فقال: " أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع " والمتاع الزاد " فمتعتهم بكلّ عظم حائل وبعرة وروثة ". فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُستنجى بالعظم والروث. قال: فقلت: يا رسول الله وما يعني ذلك عنهم؟ قال: " إنّهم لا يجدون عظماً إلاّ وجدوا عليه لحمة يوم أُكل، ولا روثة إلاّ وجدوا فيها حبّها يوم أُكلت ".

فقلت: يا رسول الله، لغطاً شديداً. فقال: " إنّ الجنّ يدارك في قتيل قتل بينهم " وقيل: قتل " فتحاكموا إليَّ، فقضيت بينهم بالحقّ ". قال: ثمّ تبرّز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ أتاني فقال: " هل معك ماء؟ ". قلت: يا رسول الله معي أداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه فصببت على يديه فتوضّأ. وقال: " تمرة طيبة وماء طهور "

السابقالتالي
2 3 4