الرئيسية - التفاسير


* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } * { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } * { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } * { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } * { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } * { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } يا معشر اليهود. { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } وهو الجبل بالسريانية في قول بعضهم. وقالوا: ليس من لغة في الدنيا إلاّ وهي في القرآن.

وقال أبو عبيدة والحُذّاق من العلماء: لا يجوز أن تكون في القرآن لغة غير لغة العرب؛ لأن الله تعالى قال:قُرْآناً عَرَبِيّاً } [يوسف: 2]، [طه: 113]، [الزمر: 28]، [فُصّلت: 3]، [الشورى: 7]، [الزخرف: 3] وقال:بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [الشعراء: 195] وإنّما هذا وأشباهه وفاق بين اللّغتين.

وقد وجدنا الطّور في كلام العرب، وقال جرير:
فإن ير سليمان الجنّ يستأنسوا بها   وإن ير سليمان أحب الطّور ينزل
وقال المفسّرون: وذلك أنّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى وأمر قومه بالعمل بأحكامه فأبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأضرار والأثقال الّتي فيها، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله تعالى جبرئيل عليه السلام يضع جبلاً على قدر عسكره وكان فرسخاً في فرسخ ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرّجل.

أبو صالح عن ابن عبّاس: أمر الله تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتّى قام على رؤوسهم مثل الظلّة.

عطاء عن ابن عبّاس: رفع الله فوق رؤوسهم الطّور وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم وقيل لهم: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم } أي أعطيناكم.

{ بِقُوَّةٍ } بجدّ ومواظبة. وفيه إضمار، أي: وقلنا لهم: خذوا.

{ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } أي احفظوه واعلموه واعملوا به و (في) حرف أولي فاذّكروا بذال مشددة وكسر الالف المشددة و (في) حرف وانه وتذكروا ما فيه ومعناهما اتعظوا به { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تنجوا من الهلاك في الدّنيا والعذاب في العقبى فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلاّ رضختكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النّار، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا لك وسجدوا خوفاً وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصارت سنّة في اليهود لا يسجدون إلاّ على أنصاف وجوههم فلمّا زال الجبل قالوا: يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك.

{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم وعصيتم.

{ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل.

{ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بتأخير العذاب عنكم.

{ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } لصرتم من المغلوبين بالعقوبة وذهاب الدّنيا والآخرة.

{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ } وذلك أنهم كانوا من داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة حرّم الله عليهم صيد السمّك يوم السبت فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلاّ اجتمع هناك حتّى يخرجن خراطيمهنّ من الماء لأمنها، فإذا مضى السبت تفرّقن ولزمن البحر فذلك قوله تعالى:إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [الأعراف: 163] فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت عشيّة الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تطيق الخروج لبعد عمقها وقلّة الماء فإذا كان يوم الأحد أخذوها، وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشّصوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد، ففعلوا ذلك زماناً فكثرت أموالهم ولم تنزل عليهم عقوبة، فقست قلوبهم وأصرّوا على الذّنب، وقالوا: ما نرى السّبت إلاّ قد أحلّ لنا، فلمّا فعلوا ذلك صار أهل القرية ـ وكانوا سبعين ألفاً ـ ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الّذين نهوا إثنا عشر ألفاً فلمّا أبى المجرمون قبول نصحهم قال الناهون: والله لا نُساكِنكم في قرية واحدة، فقسّموا القرية بجدار وغيروا بذلك سنتين فلعنهم داود وغضب الله عزّ وجلّ عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم والمجرمون لم يفتحوا أبوابهم ولا خرج منهم أحد فلمّا أبطأوا تسوّروا عليهم الحائط فإذا هم جميعاً قردة فمكثوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا، ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيّام ولم يتوالدوا فذلك قوله عزّ وجلّ { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً } أمر تحويل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7