{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } رجع من الخبر الى الخطاب على التلوين. وقيل فيه إضمار، أي قولوا: { إِيَّاكَ }. و { أَيَّا } كلمة ضمير، لكنه لا يكون إلاّ في موضع النصب، والكاف في محلّ الخفض بإضافة إيا إليها، وخصّ بالإضافة إلى الضمير؛ لأنه يضاف إلى الاسم المضمر ألا يقول الشاعر:
فدعني وإيا خالد
لأقطعن عُرْيَ نياطه
وحكى الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإياكم. ويستعمل مقدّماً على الفعل مثل (إياك أعني) و (إياك أسأل)، ولا يستعمل مؤخّراً على الفعل إلاّ أنّ..... به حين الفعل، فيقال: ما عبدت إلاّ إياك ونحوها. وقال أبو ميثم سهل ابن محمد: إياك ضمير منفصل، والضمير ثلاثة أقسام: ضمير متّصل نحو الكاف والهاء والياء في قولك: أكرمك، وأكرمه، وأكرمني. سمي بذلك لاتصاله بالفعل. وضمير منفصل نحو إياك وإياه وإياي. سمي بذلك لانفصاله عن الفعل. وضمير مستكن، كالضمير في قولك: قعد وقام. سمي بذلك لأنه استكن في الفعل ولم يُستبقَ في اللفظ ويعمّ أن فيه ضمير الفاعل؛ لأن الفعل لا يقوم إلاّ بفاعل ظاهر أو مضمر. وقال أبو زيد: إنما هما ياءان: الأولى للنسبة والثانية للنداء، تقديرها: (أي يا)، فأُدغمت وكسرت الهمزة لسكون الياء. وقال أبو عبيد: أصله (أو ياك)، فقلبت الواو ياءً فأدغموه، وأصله من (آوى، يؤوي، إيواء) كأن فيه معنى الانقطاع والقصد. وقرأ الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الألف وهي لغة. وإنما لم يقل: نعبدك (لأنه) يصحّ في العبارة، وأحسن الإشارة؛ لأنهم إذا قالوا: إياك نعبد، كان نظرهم منه إلى العبادة لا من العبادة إليه. وقوله: { نَعْبُدُ } أي نوحد ونخلص ونطيع ونخضع، والعبادة رياضة النفس على حمل المشاق في الطاعة. وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذلة، يقال: طريق معبّد إذا كان مذللا موطوءاً بالأقدام. قال طرفة:
تبارى عتاقاً ناجيات وأتبعت
وظيفاً وظيفاً فوق مور معبّد
وبعير معبد إذا كان مطلياً بالقطران، قال طرفة:
إلى أن تحامتني العشيرة كلّها
وأفردت إفراد البعير المعبّد
وسمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده لمولاه. { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: نستوفي ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلّها، يقال: استعنته واستعنت به، وقرأ يحيى بن رئاب: (نَسْتَعِينُ) بكسر النون. قال الفرّاء: تميم وقيس وأسد وربيعة يكسرون علامات المستقبل إلاّ الياء، فيقولون إستعين ونِستعين ونحوها، ويفتحون الياء لأنها أخت الكسرة. وقريش وكنانة يفتحونها كلّها وهي الأفصح والأشهر. وإنّما كرّر { إِيَّاكَ }؛ ليكون أدلّ على الإخلاص والاختصاص والتأكيد لقول الله تعالى خبراً عن موسى:{ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } [طه: 33-34]، ولم يقل: كي نسبحك ونذكرك كثيراً. وقال الشاعر:
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به
بين النهار وبين الليل قد فصلا
ولم يقل بين النهار والليل. وقال الآخر:
بين الأشجّ وبين قيس باذخ
بخ بخ لوالده وللمولود
وقال أبو بكر الورّاق: إياك نعبد لأنك خلقتنا، وإياك نستعين لأنك هديتنا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرَّحْمن الفرّان، وقد سئل عن الآية فقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك الصانع،و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأن المصنوع لا غنى به عن الصانع، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لتدخلنا الجنان، و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لتنقذنا من النيران، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنّا عبيد و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأنك كريم مجيد، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك المعبود بالحقيقة و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأننا العباد بالوثيقة.