الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

{ ٱلأَعْرَابُ } هي صيغةُ جمعٍ وليست بجمع للعرب قاله سيبويه لئلا يلزمَ كونُ الجمع أخصَّ من الواحد فإن العربَ هو هذا الجيلُ الخاصُّ سواء سكنَ البواديَ أم القرى، وأما الأعرابُ فلا يطلق إلا على من يسكن البواديَ ولهذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل: أعرابـيٌّ وقال أهلُ اللغة: رجلٌ عربـيٌ وجمعُه العَرَبُ كما يقال: مَجوسيٌّ ويهوديٌّ ثم يحذف ياء النسب في الجمع فيقال: المجوس واليهود ورجلٌ أعرابـي ويجمع على الأعراب والأعاريب أي أصحاب البدو { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } من أهل الحضَر لجفائهم وقسوةِ قلوبهم وتوحُّشهم ونشئِهم في معزل من مشاهدة العلماء ومفاوضتهم، وهذا من باب وصف الجنسِ بوصف بعض أفرادِه كما في قوله تعالى:وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ كَفُورًا } [الإسراء: 67] إذ ليس كلُّهم كما ذُكر على ما ستحيط به خُبراً { وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ } أي أحقُّ وأخلقُ بأن لا يعلموا { حُدُودَ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } لبعدهم عن مجلسه صلى الله عليه وسلم وحِرمانِهم من مشاهدة معجزاتِه ومعاينةِ ما ينزل عليه من الشرائع في تضاعيف الكتابِ والسنة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بأحوال كلٍّ من أهل الوَبر والمدَر { حَكِيمٌ } فيما يصيب به مسيئَهم ومحسنَهم من العقاب والثواب.

{ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ } شروعٌ في بـيان تشعّبِ جنسِ الأعرابِ إلى فريقين وعدم انحصارِهم في الفريق المذكورِ كما يتراءى من ظاهر النظم الكريم، وشرحٌ لبعض مثالبِ هؤلاء المتفرعةِ على الكفر والنفاق بعد بـيانِ تماديهم فيهما، وحملُ الأعراب على الفريق المذكورِ خاصةً وإن ساعده كونُ من يحكي حالَه بعضاً منهم وهم الذين بصدد الإنفاقِ من أهل النفاقِ دون فقرائِهم أو أعرابِ أسدٍ وغطفانَ وتميم كما قيل لكن لا يساعده ما سيأتي من قوله تعالى:وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ } [التوبة: 99] الخ، فإن أولئك ليسوا من هؤلاء قطعاً وإنما هم من الجنس أي ومن جنس الأعرابِ الذي نُعت بنعت بعضِ أفردِه { مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } من المال أي يعُدّ ما يصرِفه في سبـيل الله ويتصدق به صورةً { مَغْرَمًا } أي غرامةً وخُسراناً لازماً إذ لا ينفقه احتساباً ورجاءً لثواب الله تعالى ليكون له مغنماً وإنما ينفقه رياءً وتقيّةً فهي غرامةٌ محضةٌ، وما في صيغة الاتخاذِ من معنى الاختيارِ والانتفاعِ بما يتخذ إنما هو باعتبار غرضِ المنفقِ من الرياء والتقيةِ لا باعتبار ذاتٍ منفِقَةٍ أعني كونَها غرامة { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ } أصلُ الدائرة ما يحيط بالشيء والمرادُ ما لا محيص عنه من مصائب الدهرِ أي ينتظر بكم دوائرَ الدهرِ ونُوَبَه ودَوَلَه ليذهب غلَبتُكم عليه فليتخلص مما ابتُلي به { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْء } دعاءٌ عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله سبحانه:غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [المائدة: 64] بعد قول اليهود ما قالوا والسوءُ مصدرٌ ثم أطلق على كل ضُرَ وشر وأضيفت إليه الدائرةُ ذماً كما يقال: رجلُ سوءٍ لأن مَن دارت عليه يذمّها، وهي من باب إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ثم أضيفت إلى صفتِها كقوله عز وجل:مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْء } [مريم: 28] وقيل: معنى الدائرةِ يقتضي معنى السَّوءِ فإنما هي إضافةُ بـيانٍ وتأكيدٍ كما قالوا: «شمسُ النهارِ ولَحْيا رأسِه» وقرىء بالضم وهو العذابُ كما قيل له سيئة { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لما يقولونه عند الإنفاقِ مما لا خيرَ فيه { عَلِيمٌ } بما يُضمِرونه من الأمور الفاسدةِ التي من جملتها أن يتربّصوا بكم الدوائرَ وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى.