الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ } * { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ }

{ فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ } الفاء لتفريع الأمرِ الآتي على ما بـيِّن من أمرهم والفعلُ من الرجْع المتعدّي دون الرجوع اللازم أي فإن ردّك الله تعالى { إِلَىٰ طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } أي إلى المنافقين من المتخلفين في المدينة فإنّ تخلّف بعضهم إنما كان لعذر عائقٍ مع الإسلام أو إلى من بقيَ من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضُهم بالموت أو بالغَيبة عن البلد أو بأن لم يستأذِن البعضُ. عن قتادة أنهم كانوا اثنيْ عشرَ رجلاً قيل فيهم ما قيل { فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتِك هذه { فَقُلْ } إخراجاً لهم عن ديوان الغُزاةِ وإبعاداً لمحلهم عن محفِل صُحبتِك { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَـٰتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا } من الأعداء، وهو إخبارٌ في معنى النهي للمبالغة وقد وقع كذلك { إِنَّكُمْ } تعليلٌ لما سلف أي لأنكم { رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ } أي عن الغزوة وفرِحتم بذلك { أَوَّلَ مَرَّةٍ } هي غزوةُ تبوكَ { فَٱقْعُدُواْ } الفاءُ لتفريع الأمرِ بالقعود بطريق العقوبةِ على ما صدر عنهم من الرضا بالقعود أي إذا رضِيتم بالقعود أولَ مرة فاقعُدوا من بعدُ { مَعَ ٱلْخَـٰلِفِينَ } أي المتخلّفين الذين ديدنُهم القعودُ والتخلفُ دائماً وقرىء الخَلِفين على القصر، فكان محوُ أساميهم من دفتر المجاهدين ولزُّهم في قَرن الخالفين عقوبةً لهم أيَّ عقوبةٍ، وتذكيرُ اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثرُ الدائرُ على الألسنة فإنك لا تكاد تستمع قائلاً يقول: هي كبرى امرأةٍ أو أُولى مرة.

{ وَلاَ تُصَلّ عَلَىٰ أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ } صفةٌ لأحد وإنما جيء بصيغة الماضي تنبـيهاً على تحقق الوقوعِ لا محالة { أَبَدًا } متعلقٌ بالنهي أي لا تدْعُ ولا تستغفرْ لهم أبداً { وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ } أي لا تقِفْ عليه للدفن أو للزيارة والدعاء. " روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرِض رأسُ النفاق عبدُ اللَّه بنُ أُبـيِّ بنِ سَلول بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيَه فلما دخل عليه قال عليه السلام: " أهلكك حبُّ اليهود " فقال: يا رسول بعثتُ إليك لتستغفرَ لي لا لتؤنِّبني وسأله أن يكفِّنه في شِعاره الذي يلي جلدَه ويصليَ عليه، فلما مات دعاه ابنُه وكان مؤمناً صالحاً فأجابه عليه السلام تسليةً له ومراعاةً لجانبه وأرسل إليه قميصَه فكُفّن فيه فلما همّ بالصلاة أو صلّى نزلت " وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قال: لما هلك عبدُ اللَّه بن أبـيّ ووضعناه ليُصلّىٰ عليه قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أتصلي على عدوّ الله القائلِ يومَ كذا كذا وكذا والقائلِ يوم كذا كذا وكذا وعدّدتُ أيامَه الخبـيثةَ فتبسم عليه السلام وصلّىٰ عليه ثم مشىٰ معه وقام على حُفرته حتى دُفن فوالله ما لبث إلا يسيراً حتى نزل { وَلاَ تُصَلّ } الخ فما صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره، وإنما لم يُنْهَ عن التكفين بقميصه صلى الله عليه وسلم لأن الضنَّةَ بالقميص كانت مظِنّةَ الإخلالِ بالكرم على أنه كان مكافأةً لقميصه الذي كان ألبسه العباسَ رضي الله تعالى عنه حين أُسر ببدر والخبرُ مشهور { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } تعليلٌ للنهي على معنى أن الاستغفارَ للميت والوقوفَ على قبره إنما يكون لاستصلاحه وذلك مستحيلٌ في حقهم لأنهم استمرّوا على الكفر بالله ورسوله مدةَ حياتِهم { وَمَاتُواْ وَهُمْ فَـٰسِقُونَ } أي متمرِّدون في الكفر خارجون عن حدوده كما بـين من معنى الفسق.