الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }

{ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب للتشديد والكافُ في محل الرفعِ على الخبرية، أي أنتم مثلُ الذين مِن قبلكم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰدًا } تفسيرٌ وبـيانٌ لِشَبَههم بهم وتمثيلٌ لحالهم بحالهم { فَٱسْتَمْتَعُواْ } تمتعوا، وفي صيغة الاستفعالِ ما ليس في صيغة التفعلِ من الاستزادة والاستدامةِ في التمتع { بِخَلَـٰقِهِمْ } بنصيبهم من ملاذ الدنيا، واشتقاقُه من الخَلْق بمعنى التقدير وهو ما قُدّر لصاحبه { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلـٰقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ } الكاف في محل النصبِ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي استمتاعاً كاستمتاع { ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم بِخَلَـٰقِهِمْ } ذمّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسةِ من الشهوات الفانيةِ والتهائِهم بها عن النظر في العواقب الحقةِ واللذائذ الحقيقيةِ تمهيداً لذم المخاطبـين بمشابهتهم إياهم واقتفائِهم أثرَهم { وَخُضْتُمْ } أي دخلتم في الباطل { كَٱلَّذِي خَاضُواْ } أي كالذين بإسقاط النونِ أو كالفوج الذي أو كالخوض الذي خاضوه { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى المتصفين بالأوصاف المعدودةِ من المشبَّهين والمشبَّهة بهم لا إلى الفريق الأخير فقط فإن ذلك يقتضي أن يكون حُبوطُ أعمالِ المشبهين وخسرانُهم مفهومَين ضمناً لا صريحاً ويؤدي إلى خلوّ تلوينِ الخطابِ عن الفائدة إذ الظاهرُ حينئذ أولئكم والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلُح للخطاب أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة.

{ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ } ليس المرادُ بها أعمالَهم المعدودةَ كما يُشعر به التعبـيرُ عنهم باسم الإشارةِ فإن غائلتَها غنيةٌ عن البـيان بل أعمالَهم التي كانوا يستحقون بها أجوراً حسنةً لو قارنت الإيمان، أي ضاعت وبطَلت بالكلية ولم يترتب عليها أثرٌ { فِى ٱلدُّنُيَا وَٱلأَخِرَةِ } بطريق المثوبةِ والكرامةِ، أما في الآخرة فظاهرٌ وأما في الدنيا فلأنّ ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحةِ والسعة وغيرِ ذلك حسبما ينبىء عنه قولُه عز وجل:مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [هود: 15] ليس ترتبُه عليها على طريقه المثوبةِ والكرامة بل بطريق الاستدراج { وَأُوْلـئِكَ } أي الموصوفون بحُبوط الأعمالِ في الدارين { هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } الكاملون في الخسران في الدارين الجامعون لمباديه وأسبابِه طراً فإنه قد ذهبت رؤوسُ أموالِهم التي هي أعمالُهم فيما ضرَّهم ولم تنفعْهم قطّ ولو أنها ذهبت فيما لا يضرهم ولا ينفعهم لكفى به خسراناً، وإيرادُ اسمِ الأشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصافِ المُشارِ إليها للحبوط والخسران.