الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

{ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ } شروعٌ في تحقيق حقِّيةِ ما صنعه الرسولُ صلى الله عليه وسلم من القسمة ببـيان المصارفِ وردٌّ لمقالة القالةِ في ذلك وحسمٌ لأطماعهم الفارغة المبنيةِ على زعمهم الفاسدِ ببـيان أنهم بمعزل من الاستحقاق، أي جنسُ الصدقات المشتملةِ على الأنواع المختلفة { لِلْفُقَرَاء وَٱلْمَسَـٰكِينِ } أي مخصوصةٌ بهؤلاء الأصنافِ الثمانيةِ الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم فما للذين لا علاقةَ بـينها وبـينهم يقولون فيها ما يقولون وما سوّغ لهم أن يتكلموا فيها وفي قاسمها؟ والفقيرُ من له أدنى شيءٍ والمسكينُ من لا شيء له هو المرويُّ عن أبـي حنيفة رضي الله عنه وقد قيل: على العكس ولكل منهما وجهٌ يدل عليه { وَٱلْعَـٰمِلِينَ عَلَيْهَا } الساعين في جمعها وتحصليها { وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } هم أصنافٌ فمنهم أشرافٌ من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم ليُسلموا فيرضَخ لهم ومنهم قومٌ أسلموا ونيّاتُهم ضعيفةٌ فيؤلّف قلوبَهم بإجزال العطاء كعيـينةَ بنِ حصن، والأقرعِ بن حابس، والعباسِ بن مرداس، ومنهم من يُترقَّب بإعطائهم إسلامُ نظرائِهم، ولعل الصنفَ الأولَ كان يعطيهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم من خُمس الخُمسِ الذي هو خالصُ مالَه، وقد عد منهم من يؤلَّف قلبُه بشيء منها على قتال الكفار وما نعي الزكاة وقد سقط سهمُ هؤلاء بالإجماع لما أن ذلك كان لتكثير سوادِ الإسلامِ فلما أعزّه الله عز وعلا وأعلى كلمتَه استُغنيَ عن ذلك { وَفِي ٱلرّقَابِ } أي وللصَّرف في فك الرقاب بأن يُعانَ المكاتَبون بشيء منها على أداء نجومِهم، وقيل: بأن يُفدَى الأُسارى وقيل: بأن يُبتاع منها الرقابُ فتُعتق، وأياً ما كان فالعدولُ عن اللام لعدم ذكرِهم بعنوان مصحّحٍ للمالكية والاختصاص كالذين من قبلهم أو للإيذان بعدم قرارِ ملكِهم فيما أعطوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في الوجه الأخير أو للإشعار برسوخهم في استحقاق الصدقةِ لما أن (في) للظرفية المنبئةِ عن إحاطتهم بها وكونِهم محلَّها ومركزَها.

{ وَٱلْغَـٰرِمِينَ } أي الذين تداينوا لأنفسهم في غير معصيةٍ إذا لم يكن لهم نصابٌ فاضلٌ عن ديونهم وكذلك عند الشافعيِّ رضي الله عنه غُرمٍ لإصلاح ذاتِ البـين وإطفاءِ الثائرة بـين القبـيلتين وإن كانوا أغنياء { وَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي فقراءِ الغزاةِ والحجيج والمنقطَعِ بهم { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } أي المسافر المنقطِع عن ماله، وتكريرُ الظرف في الأخيرين للإيذان بزيادة فضلِهما في الاستحقاق أو لما ذكر من إيرادهما بعنوان غيرِ مصحَّحٍ للمالكية والاختصاص فهذه مصارفُ الصدقاتِ، فللمتصدق أن يدفع صدقتَه إلى كل واحدٍ منهم وأن يقتصرَ على صنف منهم لأن اللام لبـيان أنهم مصارفُ لا تخرُج عنهم لا لإثبات الاستحقاق، وقد روي ذلك عن عمرَ وابنِ عباس وحذيفةَ رضي الله عنهم وعند الشافعيِّ لا يجوز إلا أن يُصرَف إلى ثلاثة من تلك الأصناف { فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ } مصدرٌ مؤكدٌ لما دل عليه صدْرُ الآية أي فرَضَ لهم الصدقاتِ فريضةً. ونُقل عن سيبويه أنه منصوبٌ بفعله مقدراً أي فرَض الله ذلك فريضةً أو حالٌ من الضمير المستكنّ في قوله: للفقراء، أي إنما الصدقاتُ كائنةٌ لهم حالَ كونها فريضةً أي مفروضة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بأحوال الناسِ ومراتبِ استحقاقِهم { حَكِيمٌ } لا يفعلُ إلا ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور الحسنةِ التي من جملتها سَوْقُ الحقوقِ إلى مستحقّيها.