الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ فَإِذَا ٱنسَلَخَ } أي انقضى، استُعير له من الانسلاخ الواقعِ بـين الحيوان وجلدِه والأغلبُ إسناده إلى الجلد، والمعنى إذا انقضى { ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } وانفصلت عما كانت مشتملةً عليه ساترةً له انفصالَ الجلدِ عن الشاة وانكشف عنه انكشافَ الحجاب عما وراءَه كما ذكره أبو الهيثم من أنه يقال: أهلَلْنا شهرَ كذا أي دخلنا فيه ولبِسناه فنحن نزداد كلَّ ليلة لباساً منه إلى مُضيِّ نصفِه ثم نسلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً حتى نسلَخَه عن أنفسنا كلَّه فينسلِخ وأنشد:
إذا ما سلختُ الشهرَ أهلَلْتُ مثلَه   كفى قاتلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي
وتحقيقُه أن الزمانَ محيطٌ بما فيه من الزمانيات مشتملٌ عليه اشتمالَ الجلد للحيوان وكذا كلُّ جزءٍ من أجزائه الممتدة من الأيام والشهورِ والسنين فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه، وفيه مزيدُ لطفٍ لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهرَ كانت حِرْزاً لأولئك المعاهَدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالُهم بزوالها والمرادُ بها إما ما مر من الأشهر الأربعةِ فقط، ووضعُ المظهر موضعَ المضمرِ ليكون ذريعةً إلى وصفها بالحُرمة تأكيداً لما يُنبىء عنه إباحةُ السياحةِ من حرمة التعرضِ لهم مع ما فيه من مزيد الاعتناءِ بشأنها، أو هي مع ما فُهم من قوله تعالى:فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } من تتمة مدةٍ بقِيَتْ لغير الناكثين فعلى الأول يكون المرادُ بالمشركين في قوله تعالى: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } الناكثين خاصةً فلا يكون قتالُ البالغين مفهوماً من عبارة النصِّ من دِلالته، وعلى الثاني مفهوماً من العبارة إلا أنه يكون الانسلاخُ وما نيط به من القتال حينئذ شيئاً فشيئاً لا دفعةً واحدةً كأنه قيل: فإذا تم ميقاتُ كلِّ طائفةٍ فاقتُلوهم، وحملُها على الأشهر المعهودةِ الدائرةِ في كل سنة لا يساعده النظمُ الكريمُ، وأما أنه يستدعي بقاءَ حُرمةِ القتالِ فيها ـ إذ ليس فيما نزل بعدُ ما ينسخها ـ فلا اعتدادَ به لا لأنها نُسخت بقوله تعالى:وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [الأنفال: 39] كما تُوهم فإنه رجمٌ بالغيب لأنه إن أريد به ما في سورة الأنفال فإنه نزل عَقيبَ غزوةِ بدرٍ وقد صح أن المرادَ بالذين كفروا في قوله تعالى:قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال: 38] أبو سفيانَ وأصحابُه وقد أسلم في أواسط رمضانَ عام الفتحِ سنة ثمانٍ وسورةُ التوبةِ إنما نزلت في شوالٍ سنةَ تِسعٍ وإن أريد ما في سورة البقرة فإنه أيضاً نزل قبل الفتح كما يعرب عنه ما قبله من قوله تعالى:وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } [البقرة: 191] أي من مكة وقد فعل ذلك يوم الفتح فكيف يُنسخ به ما ينزِل بعده؟ بل لأن انعقادَ الإجماعِ على انتساخها كافٍ في الباب من غير حاجةٍ إلى كون سندِه منقولاً إلينا. وقد صح أن النبـيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرَ الطائفَ لعشرٍ بقِين من المحرم { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من حِلّ وحِرْم { وَخُذُوهُمْ } أي أْسِروهم والأَخيذُ: الأسير { وَٱحْصُرُوهُمْ } أي قيّدوهم أو امنعوهم من التقلب في البلاد.

السابقالتالي
2