الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } * { لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ }

{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم } بـيانٌ لسر كراهتِه تعالى لانبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم { مَّا زَادُوكُمْ } أي ما أورثوكم شيئاً من الأشياء { إِلاَّ خَبَالاً } أي فساداً وشراً فالاستثناءُ مفرَّغٌ متصلٌ وقيل: منقطعٌ وليس بذلك { ولأَوْضَعُواْ خِلَـٰلَكُمْ } أي ولسعَوْا فيما بـينكم بالنمائم والتضريبِ وإفسادِ ذاتِ البـين من وضَع البعيرُ وضعاً إذا أسرع وأوضعتُه أنا أي حملتُه على الإسراع والمعنى لأوضعوا ركائبَهم بـينكم، والمرادُ به المبالغة في الإسراع بالنمائم لأن الراكبَ أسرعُ من الماشي وقرىء ولأوقصوا من وقصت الناقةُ أسرعتْ وأوقصتُها أنا وقرىء ولأوفضوا أي أسرعوا { يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ } يحاولون أن يفتنوكم بإيقاع الخلافِ فيما بـينكم وإلقاءِ الرعبِ في قلوبكم وإفسادِ نياتِكم، والجملةُ حالٌ من ضمير أوضعوا أو استئنافٌ { وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْ } أي نمّامون يسمعون حديثَكم لأجل نقلِه إليهم أو فيكم قومٌ ضَعَفةٌ يسمعون للمنافقين أي يُطيعونهم، والجملةُ حالٌ من مفعول يبغونكم أو من فاعله لاشتمالها على ضميريهما، أو مستأنَفةٌ، ولعلهم لم يكونوا في كمية العددِ وكيفية الفسادِ بحيث يُخِل مكانُهم فيما بـين المؤمنين بأمر الجهادِ إخلالاً عظيماً، ولم يكن فسادُ خروجِهم معادلاً لمنفعته، ولذلك لم تقتضِ الحكمةُ عدمَ خروجِهم فخرجوا مع المؤمنين، ولكن حيث كان انضمامُ المنافقين القاعدين إليهم مستتبِعاً لخلل كليٍّ كرِه الله انبعاثَهم فلم يتسنَّ اجتماعُهم فاندفع فسادُهم. ووجهُ العتابِ على الأذن في قعودهم مع تقرُّره لا محالة وتضمُّنِ خروجِهم لهذه المفاسد أنهم لو قعدوا بغير إذنٍ منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقُهم فيما بـين المسلمين من أول الأمرِ ولم يقدِروا على مخالطتهم والسعي فيما بـينهم بالأراجيف ولم يتسنَّ لهم التمتعُ بالعيش إلى أن يظهرَ حالُهم بقوارعِ الآيات النازلة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمينَ } علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرِهم وما فعلوا فيما مضى وما يتأتّىٰ منهم فيما سيأتي، ووضعُ المظهَرِ موضِعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعارِ بترتّبه على الظلم ولعله شاملٌ للفريقين السّماعين والقاعدين.

{ لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ } تشتيتَ شملِك وتفريقَ أصحابِك منك { مِن قَبْلُ } أي يومَ أحُدٍ حين انصرف عبدُ اللَّه بنُ أُبـيِّ بنِ سَلولٍ المنافقُ بمن معه وقد تخلف بمن معه عن تبوكَ أيضاً بعدما خرج مع النبـي صلى الله عليه وسلم إلى ذي جُدّة، أسفلَ من ثنية الوداع، وعن ابن جريج رضي الله عنه وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلةَ العقبةِ وهم اثنا عشر رجلاً من المنافقين ليفتِكوا به عليه الصلاة والسلام فردّهم الله تعالى خاسئين { وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ } تقليبُ الأمر تصريفُه من وجه إلى وجه وترديدُه لأجل التدبـير والاجتهادِ في المكر والحيلة، يقال للرجل المتصرِّف في وجوه الحِيَل: حُوَّلٌ وقُلّبٌ، أي اجتهدوا ودبروا لك الحِيلَ والمكايدَ ودّوروا الآراءَ في إبطال أمرِك، وقرىء بالتخفيف { حَتَّىٰ جَاء ٱلْحَقُّ } أي النصرُ والتأيـيدُ الإلٰهي { وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ } غلب دينُه وعلا شرعُه { وَهُمْ كَـٰرِهُونَ } والحالُ أنهم كارهون لذلك أي على رغم منهم والآيتان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبـيانُ ما ثبّطهم الله تعالى لأجله وهتَك أستارَهم وكشف أسرارَهم، وإزاحةِ أعذارِهم تداركاً لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الإذن وإيذاناً بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويناً للخطب.