الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ }

{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ } صريحٌ في أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنه عليه الصلاة والسلام ما وقع منه عند استئذانِ المتخلفين في التخلف معتذرين بعدم الاستطاعةِ، وإذنُه كان اعتماداً على أَيْمانهم ومواثيقِهم لخلوها عن المزاحِم من ترك الأولى والأفضلِ الذي هو التأنّي والتوقفُ إلى انجلاء الأمرِ وانكشافِ الحالِ، وقولُه عز وجل: { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } أي لأي سببٍ أذِنْتَ لهم في التخلف حين اعتلّوا بعللهم بـيانٌ لما أشير إليه بالعفو من ترك الأولى وإشارةٌ إلى أنه ينبغي أن تكون أمورُه عليه الصلاة والسلام منوطةً بأسباب قويةٍ موجبةٍ لها أو مصححةٍ وأن ما أبرزوه في معرض التعلل والاعتذارِ مشفوعاً بالأيمان كان بمعزل من كونه سبباً للإذن قبل ظهورِ صدقِه، وكلتا اللامَين متعلقةٌ بالإذن لاختلافهما في المعنى فإن الأولى للتعليل والثانيةُ للتبليغ، والضميرُ المجرورُ لجميع المستأذِنين، وتوجهُ الإنكار إلى الإذن باعتبار شمولِه للكل لا باعتبار تعلّقِه بكل فردٍ لتحقق عدمِ استطاعةِ بعضِهم كما ينبىء عنه قوله سبحانه: { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } أي فيما أَخبروا به عند الاعتذارِ من عدم الاستطاعةِ من جهة المالِ أو من جهة البدن أو من جهتهما معاً حسبما عنّ لهم هناك.

{ وَتَعْلَمَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } في ذلك فتعامِلَ كلاًّ من الفريقين بما يستحقه وهو بـيانٌ لذلك الأولى والأفضلِ، وتحضيضٌ له عليه الصلاة والسلام عليه، فإن كلمة حتى سواءٌ كانت بمعنى اللامِ أو بمعنى إلى لا يمكن تعلقُها بقوله تعالى: { لِمَ أَذِنتَ } لاستلزامه أن يكون إذنُه عليه الصلاة والسلام لهم معلّلاً أو مُغيّاً بالتبـين والعلم ويكون توجُّهُ الاستفهامِ إليه من تلك الحيثيةِ وذلك بـيِّنُ الفسادِ بل بما يدل عليه ذلك، كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم وهلاّ تأنّيت حتى ينجليَ الأمر كما هو قضيةُ الحزْم

قال قتادة وعمرو بنُ ميمون: اثنان فعلهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمَر فيهما بشيء: إذنُه للمنافقين وأخذهُ الفداءَ من الأُسارى فعاتبه الله تعالى كما تسمعون. وتغيـيرُ الأسلوب بأن عبّر عن الفريق الأولِ بالموصول الذي صلتُه فعلٌ دالٌّ على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعلِ المفيدِ للدوام للإيذان بأن ما ظهر من الأوّلين صدقٌ حادثٌ في أمر خاص غيرُ مصحِّحٍ لنظمهم في سلك الصادقين، وأن ما صدر من الآخَرين وإن كان كذباً حادثاً متعلقاً بأمر خاص لكنه أمرٌ جارٍ على عادتهم المستمرةِ ناشىءٌ عن رسوخهم في الكذب. والتعبـيرُ عن ظهور الصدقِ بالتبـين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهورُ من أن مدلولَ الخبر هو الصدقُ والكذبُ احتمالٌ عقلي فظهورُ صدقِه إنما هو تبـيّنُ ذلك المدلولِ وانقطاعُ احتمالِ نقيضِه بعد ما كان محتمِلاً له احتمالاً عقلياً وأما كذبُه فأمرٌ حادثٌ لا دِلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكونَ ظهورُه تبـيّناً له بل هو نقيضٌ لمدلوله فما يتعلق به يكون عِلْماً مستأنفاً، وإسنادُه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا إلى المعلومين ببناء الفعلِ للمفعول مع إسناد التبـيّنِ إلى الأولين لما أن المقصودَ هٰهنا علمُه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتُهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذةَ عليهم ومن لم يتنبَّه لهذا قال: حتى يتبـين لك مَنْ صدق في عذره ممن كذَب فيه، وإسنادُ التبـيُّنِ إلى الأولين وتعليقُ العلمِ بالآخَرين ـ مع أن مدارَ الإسنادِ والتعلقِ أو لا وبالذات هو وصفُ الصدقِ والكذب كما أشير إليه ـ لما أن المقصِدَ هو العلمُ بكلا الفريقين باعتبار اتصافِهما بوصفهما المذكورَين ومعاملتِهما بحسب استحقاقِهما لا العلمُ بوصفيهما بذاتيهما أو باعتبار قيامِهما بموصوفيهما.

السابقالتالي
2