الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

{ إِنَّمَا ٱلنَّسِىء } هو مصدرُ نسَأَه إذا أخَّره نسْأً ونَساءً ونسيئاً نحوُ مسَّ مسّاً ومَساساً ومسيساً وقرىء بهن جميعاً وقرىء بقلب الهمزة ياءً وتشديدِ الياء الأولى فيها كانوا إذا جاء شهرٌ حرامٌ وهم محارِبون أحلُّوه وحرَّموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوصَ الأشهر واعتبروا مجردَ العددِ وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشَر ليتسعَ لهم الوقت ويجعلوا أربعةَ أشهر من السنة حُرُماً ولذلك نصّ على العدد المعين في الكتاب والسنة أي إنما تأخيرُ حرمةِ شهرٍ إلى شهر آخر { زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ } لأنه تحليلُ ما حرمه الله وتحريمُ ما حلله فهو كفرٌ آخرُ مضمومٌ إلى كفرهم { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ضلالاً على ضلالهم القديم، وقرىء على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفعلَ لله سبحانه أي يخلُق فيهم الضلال عند مباشرتِهم لمباديه وأسبابِه وهو المعنيُّ على القراءة الأولى أيضاً، وقيل: المُضِلّون حينئذ رؤساؤُهم والموصولُ عبارةٌ عن أتباعهم، وقرىء يَضَلُّ بفتح الياء والضاد من ضَلِل ونُضِلّ بنون العظمة { يُحِلُّونَهُ } أي الشهرَ المؤخر { عَاماً } من الأعوام ويحرِّمون مكانه شهراً آخرَ مما ليس بحرام { وَيُحَرّمُونَهُ } أي يحافظون على حُرمته كما كانت، والتعبـيرُ عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالِهم له في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء { عَاماً } آخرَ إذا لم يتعلقْ بتغيـيره غرضٌ من أغراضهم. قال الكلبـي: أولُ من فعل ذلك رجلٌ من كنانة يقال له نُعيم بنُ ثعلبة وكان إذا همّ الناسُ بالصدَر من الموسم يقوم فيخطب ويقول: لا مردَّ لما قضيْتُ وأنا الذي لا أُعاب ولا أُجاب فيقول له المشركون: لبـيك ثم يسألونه أن يَنْسئَهم شهراً يغيِّرون فيه فيقول: إن صفرَ العامَ حرامٌ فإذا قال ذلك حلّوا الأوتارَ ونزعوا الأسنةَ والأزِجّة وإن قال: حلالٌ عقدوا الأوتار وشدّوا الأزجةَ وأغاروا، وقيل: هو جُنادةُ بنُ عوفٍ الكنانيُّ وكان مطاعاً في الجاهلية كان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوتِه: إن آلهتَكم قد أحلت لكم المحرَّم فأحِلّوه ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتَكم قد حرمت عليكم المحرَّمَ فحرِّموه، وقيل: هو رجلٌ من كنانةَ يقال له القَلمّسُ قال قائلهم:
ومنا ناسىءُ الشهرِ القَلَمَّسْ   
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أولُ من سنَّ النسيءَ عمرُ بنُ قُمعةَ بن خندِفَ والجملتان تفسيرٌ للضلال أو حالٌ من الموصول والعاملُ عاملُه { لّيُوَاطِئُواْ } أي ليوافقوا { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } من الأشهر الأربعةِ واللام متعلقةٌ بالفعل الثاني أو بما يدل عليه مجموعُ الفعلين { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } بخصوصه من الأشهر المعينة { زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَـٰلِهِمْ } وقرىء على البناء للفاعل وهو الله سبحانه والمعنى جَعلَ أعمالَهم مشتهاةً للطبع محبوبةً للنفس وقيل: خَذَلهم حتى حسِبوا قبـيحَ أعمالِهم حسناً فاستمروا على ذلك { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } هدايةً موصلةً إلى المطلوب البتةَ وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكِه وهم قد صدّوا عنه بسوء اختيارِهم فتاهوا في تيه الضلال.