الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ }

{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } إطفاءُ النار عبارةٌ عن إزالة لَهبِها الموجبةِ لزوال نورِها لا عن إزالة نورِها كما قيل، لكن لما كان الغرضُ من إطفاء نارٍ ـ لا يراد بها إلا النورُ كالمصباح ـ إزالةَ نورِها جُعل إطفاؤُها عبارةً عنها ثم شاع ذلك حتى كان عبارةً عن مطلق إزالةِ النور وإن كان لغير النار، والسرِّ في ذلك انحصارُ إمكانِ الإزالةِ في نورها والمرادُ بنور الله سبحانه إما حجتُه النيرةُ الدالةُ على وحدانيته وتنزُّهِه عن الشركاء والأولادِ أو القرآن العظيمِ الناطقِ بذلك أي يريد أهلُ الكتابـين أن يردّوا القرآنَ ويكذِّبوه فيما نطَق به من التوحيد والتنزُّه عن الشركاء والأولادِ والشرائعِ التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحِلِّ والحُرمة { بِأَفْوٰهِهِم } بأقاويلهم الباطلةِ الخارجةِ منها من غير أن يكونَ لها مصداقٌ تنطبقُ عليه أو أصلٌ تستند إليه حسبما حُكي عنهم. وقيل: المرادُ به نُبوةُ النبـي صلى الله عليه وسلم، هذا وقد قيل: مُثِّلت حالُهم فيما ذكر بحال مَنْ يريد طمسَ نورٍ عظيم منبثٍّ في الآفاق بنفخة { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ } أي لا يريد { إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } بإعلاء كلمةِ التوحيدِ وإعزازِ دينِ الإسلامِ وإنما صح الاستثناءُ المفرَّغُ من الموجَب لكونه بمعنى النفي كما أشير إليه لوقوعه في مقابلة قوله تعالى: { يُرِيدُونَ } وفيه من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ، أي لا يريد شيئاً من الأشياء إلا إتمامَ نورِه فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلاً عن الإطفاء، وفي إظهار النورِ في مَقام الإضمارِ مضافاً إلى ضميره عز وجل زيادةُ اعتناءٍ بشأنه وتشريفٌ له على تشريف وإشعارٌ بعِلة الحُكم { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } جوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه، والجملةُ معطوفةٌ على جملة قبلها مقدرةٍ وكلتاهما في موقع الحال، أي لا يريد الله إلا إتمامَ نورِه لو لم يكرَهِ الكافرون ذلك ولو كرهوه، أي على كل حال مفروضٍ وقد حُذفت الأولى في الباب حذفاً مطرداً لدلالة الثانيةِ عليها دَلالةً واضحةً لأن الشيء إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في أن ولو الوصليتين من التأكيد وقد مر زيادةُ تحقيق لهذا مراراً.

{ هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } ملتبساً { بِٱلْهُدَىٰ } أي القرآن الذي هو هدى للمتقين { وَدِينِ ٱلْحَقّ } الثابتِ وهو دينُ الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } أي رسولُه { عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ } أي على أهل الأديانِ كلِّهم أو ليُظهرَ الدينَ الحقِّ على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحِكمةُ، والجملةُ بـيانٌ وتقريرٌ لمضمون الجملةِ السابقة، والكلامُ في قوله عز وجل: { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } كما فيما سبق خلا أن وصفَهم بالشرك بعد وصفِهم بالكفر للدلالة على أنهم ضمُّوا الكفرَ بالرسول إلى الكفر بالله.