الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ }

وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } استئنافٌ لبـيان مراتبِ فضلِهم إثرَ بـيانِ عدمِ الاستواءِ وضلالِ المشركين وظلمِهم. وزيادةُ الهجرةِ وتفصيلُ نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهادِ لا أنه اعتُبر بطريق التدارك أمراً لم يُعتبر فيما سلف أي هم باعتبار اتصافِهم بهذه الأوصافِ الجميلة { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ } أي أعلى رتبةً وأكثرَ كرامةً ممن لم يتصف بها كائناً مَنْ كان وإن حاز جميعَ ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقايةُ والعمارة { وَأُوْلـئِكَ } أي المنعوتون بتلك النعوتِ الفاضلةِ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِهم في الرفعة { هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } المختصون بالفوز العظيمِ أو بالفوز المطلقِ كأن فوزَ مَنْ عداهم ليس بفوزٍ بالنسبة إلى فوزهم، وأما على الثاني فهو توبـيخٌ لمن يؤثِر السِّقايةَ والعِمارةَ من المؤمنين على الهجرة والجهاد، روي أن علياً قال للعباس رضي الله عنهما بعد إسلامِه: يا عمّ ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألستُ في أفضلَ من الهجرة أَسقي حاجَّ بـيتِ الله وأعمُر المسجدَ الحرام؟ فلما نزلت قال: ما أُراني إلا تاركَ سقايتِنا فقال عليه السلام: " أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً " وروى النعمانُ بن بشير قال: كنت عند منبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ: ما أبالي ألا أعملَ عملاً بعد أن أسقي الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أبالي ألا أعملَ عملاً بعد أن أعمُرَ المسجدَ الحرام، وقال آخرُ: الجهادُ في سبـيل الله أفضلُ مما قلتم، فزجرهم عمرُ رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتَكم عند منبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ، والمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ من المؤمنين في الفضيلة والرفعةِ كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد في سبـيله، أو أجعلتموهما كالإيمان والجهادِ، وإنما لم يُذكر الإيمانُ في جانب المشبَّه ـ مع كونه معتبَراً فيه قطعاً ـ تعويلاً على ظهور الأمرِ وإشعاراً بأن مدارَ إنكارِ التشبـيه هو السقايةُ والعمارةُ دون الإيمانِ وإنما لم يُترك ذكرُه في جانب المشبَّه به أيضاً تقويةً للإنكار وتذكيراً لأسباب الرجحانِ ومبادىءِ الأفضلية وإيذاناً بكمال التلازمِ بـين الإيمان وما تلاه، ومعنى عدمِ الاستواء عند الله تعالى على هذا التقدير ظاهرٌ وكذا أعظميةُ درجةِ الفريقِ الثاني، وأما قوله تعالى:وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } فالمرادُ به عدمُ هدايتِه تعالى إلى معرفة الراجحِ من المرجوح وظلمُهم بوضع كل منهما موضعَ الآخر لا عدمُ الهدايةِ مطلقاً ولا الظلمُ عموماً، والقصرُ في قوله تعالى: { وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } بالنسبة إلى درجة الفريقِ الثاني، أو إلى الفوز المطلق ادعاءٌ كما مر والله أعلم.