الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } * { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }

{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ } الكلامُ في إيراد صيغةِ الجمعِ كما مر فيما مر، خلا أن إرادةَ جميعِ المساجدِ وإدراجَ الحرامِ في ذلك غيرُ مخالفةٍ لمقتضى الحال، فإن الإيجابَ ليس كالسلب وقد قرىء بالإفراد أيضاً والمرادُ هٰهنا أيضاً قصرُ تحققِ العِمارةِ ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارةً يُعتدّ بها { مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ } وحده { وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } بما فيه من البعد والحساب والجزاءِ حسبما نطَق به الوحيُ { وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } على ما علم من الدين فيندرجُ فيه الإيمانُ بنبوة النبـي صلى الله عليه وسلم حتماً وقيل: هو مندرجٌ تحت الإيمانِ بالله خاصةً فإن أحدَ جُزْأي كلمتي الشهادة علمٌ للكل أي إنما يعمُرها مَنْ جمع هذه الكمالاتِ العلميةَ والعمليةَ، والمرادُ بالعمارة ما يعم مَرَمَّةَ ما استرمّ منها وقمُّها وتنظيفُها وتزيـينُها بالفُرُش وتنويرُها بالسُّرُج وإدامةُ العبادة والذكرُ ودراسةُ العلوم فيها ونحوُ ذلك وصيانتُها مما لم تُبنَ له كحديث الدنيا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحديثُ في المسجد يأكلُ الحسناتِ كما تأكل البهيمةُ الحشيش " وقال عليه الصلاة والسلام: " قال الله تعالى: «إن بـيوتي في أرضي المساجدُ وإن زوّاري فيها عُمّارُها فطوبـى لعبد تطهر في بـيته ثم زارني في بـيتي فحقّ على المَزورِ أن يكرم زائرِه " وعنه عليه الصلاة والسلام: " من ألِفَ المسجدَ ألِفَه الله تعالى " وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجدَ فاشهدوا له بالإيمان " وعن أنس رضى الله عنه: «من أسرج في مسجد سِراجاً لم تزل الملائكةُ وحملةُ العرشِ تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤُه» { وَلَمْ يَخْشَ } في أمور الدين { إِلاَّ ٱللَّهَ } فعمِل بموجب أمرِه ونهيه غيرَ آخذٍ له في الله لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالم فيندرج فيه عدمُ الخشية عن القتال ونحوُ ذلك، وأما الخوفُ الجِبِليُّ من الأمور المَخوفةِ فليس من هذا الباب ولا مما يدخُل تحت التكليفِ والخطاب، وقيل: كانوا يخشَوْن الأصنام ويرجونها فأريد نفيُ تلك الخشيةِ عنهم { فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ } المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة { أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } إلى مباغيهم من الجنة وما فيها من فنون المطالبِ العليةِ، وإبرازُ اهتدائِهم مع ما بهم من الصفات السنيةِ في معرِض التوقعِ لقطع أطماعِ الكفرةِ عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاعِ بأعمالهم التي يحسَبون أنهم في ذلك محسنون، ولتوبـيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون، فإن المؤمنين ـ مع ما بهم من هذه الكمالاتِ، إذا كان أمرُهم دائراً بـين لعل وعسى ـ فما بالُ الكفرة وهم هُمْ، وأعمالهم أعمالُهم وفيه لطفٌ للمؤمنين وترغيبٌ لهم في ترجيح جانبِ الخوفِ على جانب الرجاءِ ورفض الاعتذار بالله تعالى.

السابقالتالي
2