الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِى بَنَوْاْ } البنيانُ مصدرٌ أُريد به المفعولُ، ووصفُه بالموصول الذي صلتُه فعله للإيذان بكيفية بنائِهم له وتأسيسِه على أوهن قاعدةٍ وأوهىٰ أساسٍ وللإشعار بعلة الحُكم، أي لا يزال مسجدُهم ذلك مبنياً ومهدوماً { رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } أي سببَ ريبةٍ وشكَ في الدين كأنه نفسُ مُريبِه. أما حالَ بنيانه فظاهرٌ لِما أن اعتزالَهم من المؤمنين واجتماعَهم في مجمع على حياله يُظهرون فيه ما في قلوبهم من آثار الكفرِ والنفاقِ ويدبِّرون فيه أمورَهم ويتشاورون في ذلك، ويُلقي بعضُهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكاً في الدين، وأما حالَ هدمِه فلما أنه رسَخ به ما كان في قلوبهم من الشر وتضاعفت آثارُه وأحكامُه أو سبّب ريبةً في أمرهم حيث ضعُفت قلوبُهم ووهَى اعتقادُهم بخفاء أمرِهم على أمر المؤمنين لأنهم أظهروا من أمرهم بعد البناءِ أكثرَ مما كانوا يُظهرونه قبل ذلك وقت اختلاطِهم بالمؤمنين وساءت ظنونُهم بأنفسهم فلما هُدم بنيانُهم تضاعف ذلك الضَّعفُ وتقوّى وصاروا مُرتابـين في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتركهم على ما كانوا عليه من قبل أو يأمرُ بقتلهم ونهبِ أموالِهم. وقال الكلبـي: معنى ريبةً حسرةً وندامة. وقال السدي وحبـيب والمبرد: لا يزال هدمُ بنيانِهم حزازةً وغيظاً في قلوبهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ } من التفعل بحذف إحدى التاءين أي إلا أن تتقطع { قُلُوبِهِمْ } قِطعاً وتتفرّقَ أجزاءً بحيث لا يبقى لها قابليةُ إدراكٍ وإضمار قطعاً، وهو استثناءٌ من أعم الأوقاتِ أو أعم الأحوال ومحلُّه النصبُ على الظرفية أي لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل الأوقات أو كلِّ الأحوال إلا وقتَ تقطُّع قلوبهم أو حالَ تقطعِ قلوبِهم، فحينئذ يسْلُون عنها وأما ما دامت سالمةً فالريبةُ باقيةٌ فيها فهو تصويرٌ لامتناع زوالِ الريبةِ عن قلوبهم، ويجوزُ أن يكون المرادُ حقيقةً تقطُّعُها عند قتلِهم أو في القبور أو في النار، وقرىء تُقَطّع على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على خطاب النبـي صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تُقطِّع أنت قلوبَهم بالقتل، وقرىء على البناء للمجهول من الثلاثي مذكراً ومؤنثاً وقرىء إلى تقطُّعِ قلوبهم وإلى أن تُقطِّع قلوبَهم على الخطاب، وقرىء ولو قُطِّعت قلوبُهم على إسناد الفعل مجهولاً إلى قلوبهم ولو قَطَّعتَ قلوبَهم على الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد يصلُح للخطاب. وقيل: إلا أن يتوبوا توبةً تتقطّع بها قلوبُهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بجميع الأشياءِ التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم { حَكِيمٌ } في جميع أفعالِه التي من زمرتها أمرُه الواردُ في حقهم.

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ } ترغيبٌ للمؤمنين في الجهاد ببـيان فضيلتِه إثرَ بـيانِ حالِ المتخلفين عنه، ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيدَ عليه حيث عبّر عن قَبول الله تعالى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم التي بذلوها في سبـيله تعالى وإثابتِه إياهم ـ بمقابلتها ـ الجنةَ بالشراء على طريقة الاستعارةِ التبعية ثم جُعل المبـيعُ الذي هو العُمدةُ والمقصِدُ في العقد أنفُسَ المؤمنين وأموالَهم والثمنُ الذي هو الوسيلةُ في الصفقة الجنةُ ولم يُجعل الأمرُ على العكس بأن يقال: إن الله باع الجنةَ من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصِد في العقد هو الجنةُ وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلةٌ إليها إيذاناً بتعليق كمالِ العنايةِ بهم وبأموالهم ثم إنه لم يقل بالجنة بل قيل: { بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } مبالغةً في تقرير وصولِ الثمنِ إليهم واختصاصِه بهم كأنه قيل: بالجنة الثابتةِ لهم المختصةِ بهم.

السابقالتالي
2 3