الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }

(سورة براءة مدنية وهى مائة وتسع وعشرون آية)

{ بَرَاءةٌ } خبرُ مبتدأ محذوفٍ وتنوينُه للتفخيم وقرىء بالنصب أي اسمعوا براءةً ومِنْ في قوله تعالى: { مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لها ليفيدَها زيادةَ تفخيمٍ وتهويلٍ أي هذه براءةٌ مبتدأةٌ من جهة الله تعالى ورسوله واصلة { إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } وإنما لم يذكر ما تعلق به للبراءة حسبما ذكر في قوله تعالى: { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِىء مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } اكتفاءً بما في حيز الصلةِ فإنه منبىءٌ عنه إنباءً ظاهراً واحترازاً عن تكرير لفظة من، وقيل: هي مبتدأٌ لتخصصها بالصفة وخبرُه إلى الذين الخ والذي تقتضيه جزالةُ النظمِ هو الأولُ لأن هذه البراءةَ أمرٌ حادثٌ لم يُعهَدْ عند المخاطَبـين ذاتُها ولا عنوانُ ابتدائِها من الله تعالى ورسولِه حتى يخرُجَ ذلك العنوانُ مخرَجَ الصفةِ لها ويُجعلَ المقصودَ بالذات، والعمدةُ في الإخبار شيئاً آخرَ هو وصولُها إلى المعاهَدين، وإنما الحقيقُ بأن يُعتنىٰ بإفادته حدوثُ تلك البراءةِ من جهته تعالى ووصولِها إليهم فإن حق الصفاتِ قبل علم المخاطَب بثبوتها لموصوفاتها أن تكون أخباراً، وحقُّ الأخبار بعد العلمِ بثبوتها لما هيَ له أن تكون صفاتٍ كما حقق في موضعه، وقرىء منِ الله بكسر النون على أن الأصلَ في تحريك الساكنِ الكسرُ ولكن الوجهَ هو الفتحُ في لام التعريفِ خاصةً لكثرة الوقوع، والعهدُ العقدُ الموثقُ باليمين والخطابُ في عاهدتم للمسلمين وقد كانوا قد عاهدوا مشركي العربِ من أهل مكةَ وغيرِهم بإذن الله تعالى واتفاقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فنكَثوا إلا بني ضَمْرَةَ وبني كِنانةَ فأُمر المسلمون بنبذ العهدِ إلى الناكثين وأُمهلوا أربعةَ أشهر ليسيروا أين شاؤوا، وإنما نُسبت البراءةُ إلى الله ورسوله مع شمولها للمسلمين واشتراكِهم في حكمها ووجوبِ العملِ بموجبها وعُلّقت المعاهدةُ بالمسلمين خاصةً مع كونها بإذن الله تعالى واتفاقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم للإنباء عن تنجُّزها وتحتُّمها من غير توقفٍ على رأي المخاطبـين لأنها عبارةٌ عن إنهاء حكمِ الأمانِ ورفعِ الحظْرِ المترتبِ على العهد السابقِ من التعرض للكفرة، وذلك مَنوطٌ بجناب الله عز وجل لأنه أمرٌ كسائر الأوامرِ الجاريةِ على حسب حكمةٍ تقتضيها وداعيةٍ تستدعيها تترتب عليها آثارُها من غير توقفٍ على شيء أصلاً، واشتراكُ المسلمين في حكمها ووجوبِ العمل بموجبها إنما هو طريقةُ الامتثالِ بالأمر لا على أن يكونَ لهم مدخلٌ في إتمامها أو في ترتب أحكامِها عليها، وأما المعاهدةُ فحيث كانت عقداً كسائر العقود الشرعيةِ لا تتحصّل في نفسها ولا تترتب عليها أحكامُها إلا بمباشرة المتعاقدين على وجوه مخصوصةٍ اعتبرها الشرعُ لم يُتصوَّرْ صدورُها عنه سبحانه وإنما الصادرُ عنه في شأنها هو الإذنُ فيها وإنما الذي يباشرُها ويتولى أمرَها المسلمون.

السابقالتالي
2