الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ } * { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ }

وقوله تعالى: { لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَـٰطِلَ } جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبـيان الحِكمةِ الداعيةِ إلى اختيار ذاتِ الشوكة ونصرِهم عليها مع إرادتهم لغيرها، واللامُ متعلقةٌ بفعل مقدر مؤخر عنها، أي لهذه الغايةِ الجليلةِ فعَل ما فعَل لا لشيء آخرَ وليس فيه تكرارٌ إذ الأولُ لبـيان تفاوتِ ما بـين الإرادتين، وهذا لبـيان الحِكمةِ الداعية إلى ما ذكر، ومعنى إحقاقِ الحقِّ إظهارُ حقّيتِه لا جعلُه حقاً بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ } أي المشركون ذلك أي إحقاق الحق وإبطال الباطل { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } بدلٌ من إذ يعدكم معمولٌ لعامله، فالمراد تذكيرُ استمدادِهم منه سبحانه والتجائِهم إليه تعالى حين ضاقت عليهم الحِيلُ وعيَّتْ بهم العِللُ، وإمدادُه تعالى حينئذ وقيل: متعلقٌ بقوله تعالى ليحق الحق على الظرفية، وما قيل من أن قولَه تعالى ليُحِق مستقبلٌ لأنه منصوبٌ بأن فلا يمكن عملُه في إذا لأنه ظرف لما مضى ليس بشيء لأن كونَه مستقبَلاً إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غايةٌ له في الفعل المقدرِ لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثةِ حتى لا يعملَ فيه بل هما في وقت واحدٍ وإنما عبّر عن زمانها بإذ نظراً إلى زمان النزولِ، وصيغةُ الاستقبالِ في تستغيثون لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها العجيبة، وقيل: متعلقٌ بمضمر مستأنفٍ أي اذكروا وقت استغاثتِكم وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال جعلوا يدعون الله تعالى قائلين: أيْ ربُّ انصُرنا على عدوك يا غياثَ المستغيثين أغِثْنا، (وعن عمرَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألفٌ وإلى أصحابه وهو ثلثُمائة وبضعةَ عشرَ فاستقبل القِبلةَ ومد يديه يدعو: " اللهَّم أنجِزْ لي ما وعدتني اللهم إنْ تهلِكْ هذه العِصابةُ لا تعبَدْ في الأرض " فما زال كذلك حتى سقط رداؤُه فأخذه أبو بكر رضى الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال: يا نبـيَّ الله كفاك مناشدتُك ربَّك فإنه سيُنجز لك ما وعدك).

{ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ } عطفٌ على تستغيثون داخلٌ معه في حكم التذكيرِ لِما عرفت أنه ماضٍ وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة { أَنّي مُمِدُّكُمْ } أي بأني، فحُذف الجارُّ وسُلّط عليه الفعلُ فنصَب محلَّه، وقرىء بكسر الهمزة على إرادة القولِ أو على إجراء استجابَ مُجرىٰ قال لأن الاستجابةَ من مقولة القول { بِأَلْفٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي جاعلين غيرَهم من الملائكة رديفاً لأنفسهم فالمراد بهم رؤساؤُهم المستتبِعون لغيرهم، وقد اكتُفي هٰهنا بهذا البـيانِ الإجماليِّ وبـيِّن في سورة آلِ عمرانَ مقدارُ عدِّهم، وقيل: معناه مُتْبعِين أنفسَهم ملائكةً آخرين أو متْبعين المؤمنين أو بعضَهم بعضاً، من أردفتُه إذا جئتُ بعده، أو متبعين بعضَهم بعضَ المؤمنين أو أنفسَهم المؤمنين، من أردفتُه إياه فردِفَه، وقرىء مردَفين بفتح الدال أي مُتْبَعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقَتَهم وقرىء مرُدّفين بكسر الراء وضمها وتشديد الدال وأصلُهما مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاءُ في الدال فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الإتباع، وقرى بآلاف ليوافقَ ما في سورة آل عمران.

ووجهُ التوفيق بـينه وبـين المشهورِ أن المرادَ بالألفِ الذين كانوا على المقدمة أو الساقةُ أو وجوهُهم وأعيانُهم أو من قاتل منهم واختُلف في مقاتلتهم وقد روي أخبارٌ تدل على وقوعها.