الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } * { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ }

{ يُجَـٰدِلُونَكَ فِي ٱلْحَقّ } الذي هو تلقّي النفيرِ لإيثارهم عليه تلقيَ العير، والجملةُ استئنافٌ أو حالٌ ثانية أي أخرجك في حال مجادلِتهم إياك ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في لَكارهون وقوله تعالى: { بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ } منصوبٌ بـيجادلونك، وما مصدرية أي بعد تبـين الحقِّ لهم بإعلامك أنهم يُنصَرون أينما تواجهوا ويقولون: ما كان خروجُنا إلا للعِير، وهلا قلتَ لنا لنستعدَّ ونتأهَّبَ وكان ذلك لكراهتهم القتالَ { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ } الكافُ في محل النصبِ على الحالية من الضمير في لَكارهون أي مُشبّهين بالذين يُساقون بالعنف والصَّغار إلى القتل { وَهُمْ يَنظُرُونَ } حال من ضمير يساقون أي والحالُ أنهم ينظرُون إلى أسباب الموتِ ويشاهدونها عِيانا، وما كانت هذه المرتبةُ من الخوف والجزعِ إلا لقلة عددِهم وعدمِ تأهُّبِهم وكونهم رِجالة. روي أنه لم يكن فيهم إلا فارسان.

{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتَيْنِ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبـيان جميلِ صنعِ الله عز وجل بالمؤمنين مع ما بهم من قلة الحزم ودناءةِ الهِمّةِ وقُصورِ الرأي والخوفِ والجزعِ، وإذْ منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به المؤمنون بطريق التلوينِ والالتفات، وإحدى الطائفتين مفعولٌ ثانٍ ليعدُكم أي اذكروا وقتَ وعدِ الله إياكم إحدى الطائفتين، وتذكيرُ الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما فيه من الحوادث لما مر مراراً من المبالغة في إيجاب ذكرِها لِما أن إيجابَ ذكر الوقتِ إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه من الحوادث بتفاصيلها، فإذا استُحضر كان ما وقع فيه حاضراً مفصّلاً كأنه مشاهَدٌ عياناً، وقرىء يَعدْكم بسكون الدال تخفيفاً، وصيغةُ المضارعِ لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها وقوله تعالى: { أَنَّهَا لَكُمْ } بدلُ اشتمالٍ من إحدى الطائفتين مُبـينٌ لكيفية الوعدِ أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنةٌ لكم مختصّةٌ بكم مسخّرةٌ لكم تتسلطون عليها تسلّطَ الُملاّكِ وتتصرفون فيهم كيف شئتم { وَتَوَدُّونَ } عطفٌ على يعدكم داخلٌ تحت الأمرِ بالذكر أي تحبون { أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } من الطائفتين لا ذاتَ الشوْكةِ وهي النفيرُ ورئيسُهم أبو جهلٍ وهم ألفُ مقاتلٍ، وغيرُ ذاتِ الشَّوكة هي العِيرُ إذ يكن فيها إلا أربعون فارساً ورأسُهم أبو سفيانَ. والتعبـيرُ عنهم بهذا العنوانِ للتنبـيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجبِ كراهتِهم ونفرتِهم عن موافاة النفيرِ، والشوْكةُ: العدةُ، مستعارةٌ من واحدة الشَّوْك وشوك القنا سباها { وَيُرِيدُ ٱللَّهُ } عطفٌ على تودّون منتظمٌ معه في سلك التذكيرِ ليُظهِرَ لهم عظيمَ لطفِ الله بهم مع دناءة هِممِهم وقصور آرائِهم، أي اذكُروا وقت وعِده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتِكم لأدناهما وإرادتَه تعالى لأعلاهما وذلك قوله تعالى: { أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أي يُثْبِتَه ويُعلِيَه { بِكَلِمَـٰتِهِ } أي بآياته المنزلةِ في هذا الشأن أو بأوامره للملائكة بالإمداد وبما قضَى من أسرهم وقتلهم وطرحِهم في قَليب بدر، وقرىء بكلمته { وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي آخِرَهم ويستأصِلَهم بالمرة، المعنى أنتم تريدون سَفْسافَ الأمور والله عز وعلا يريد معالِيَها وما يرجِعُ إلى علو كلمةِ الحقِّ وسموِّ رتبةِ الدين، وشتان بـين المُرادَين.