الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ } * { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }

وقوله تعالى: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } بـيانٌ لأحكام المشرِفين إلى نقض العهدِ إثرَ بـيانِ أحكامِ الناقضين له بالفعل، والخوفُ مستعارٌ للعلم أي وإما تعلَمنَّ من قوم من المعاهِدين نقضَ عهدٍ فيما سيأتي بما لاح لك منهم من دلائلِ الغدرِ ومخايلِ الشر { فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ } أي فاطرَح إليهم عهدَهم { عَلَىٰ سَوَاء } على طريق مستوٍ قَصْدٍ بأن تُظهر لهم النقصَ وتُخبِرَهم إخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعتَ ما بـينك وبـينهم من الوصلة ولا تناجِزْهم الحربَ وهم على توهم بقاءِ العهدِ كيلا يكونَ من قِبَلك شائبةُ خيانةٍ أصلا فالجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من النابذ أي فانِبذْ إليهم ثابتاً على سواءٍ وقيل: على استواءٍ في العلم بنقض العهدِ بحيث يستوى فيه أقصاهم وأدناهم، أو تستوى فيه أنت وهم فهو على الأول حالٌ من المنبوذ إليهم وعلى الثاني من الجانبـين { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَـٰئِنِينَ } تعليلٌ للأمر بالنبذ إما باعتبار استلزامِه للنهي عن المناجزة التي هي خيانةٌ فيكونُ تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها وإما باعتبار استتباعِه للقتال بالآخرة فيكونُ حثاً له عليه الصلاة والسلام على النبذ أولاً وعلى قتالهم ثانياً، كأنه قيل: وإما تعلَمنَّ من قوم خيانةً فانبذْ إليهم ثم قاتِلْهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت من حالهم.

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي أنفسَهم فحُذف للتكرار وقوله تعالى { سَبَقُواْ } أي فاتوا وأفلتوا من أن يُظفَرَ بهم مفعولٌ ثانٍ ليحسبن والمرادُ إقناطُهم من الخلاص وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ من الانتفاعِ بالنبذ والاقتصارِ على دفع هذا التوهمِ مع أن مقاومةَ المؤمنين بل الغلبةَ عليهم أيضاً مما تتعلق به أمانيهم الباطلةُ للتنبـيه على أن ذلك مما لا يحوم حوله وهمُهم وحُسبانُهم وإنما الذي يمكن أن يدورَ في خلدهم حسبانُ المناصِ فقط، وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى أحد أو إلى مَنْ خلفهم والمفعولُ الأولُ الموصولُ المتناولُ لهم أيضاً وقيل: هو الفاعلُ وأنْ محذوفةٌ مِنْ سبقوا، وهي مع ما في حيزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، والتقديرُ ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا ويعضُده قراءة من قرأ أنهم سبقوا ونظيرُه في الحذف قوله تعالى:وَمِنْ ءايَـٰتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً } [الروم: 24] وقولُه تعالى:أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } [الروم: 64] الآية، قاله الزجاج وقرىء بالتاء على خطاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة واضحة وقرىء ولا تحسبن الذين بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } أي لا يفوتون ولا يجدون طالبَهم عاجزاً عن إدراكهم، تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئنافِ، وقرىء بفتح الهمزة على حذف لام التعليلِ، وقيل: الفعلُ واقعٌ عليه ولا زائدةٌ، وسبَقوا حالٌ بمعنى سابقين أي مُفْلتين هاربـين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يُحذر من عاقبة النبذِ لِما أنه إيقاظٌ للعدو وتمكينٌ لهم الهرب والخلاصِ من أيدي المؤمنين وفيه نفيٌ لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كما أشير إليه، وقيل: نزلت فيمن أفلت من فَلِّ المشركين وقرىء لا يعجزونِ بكسر النون ولا يعجزونِّ بالتشديد.