الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ }

{ إِذْ يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ } أي يجعله غاشياً لكم ومحيطاً بكم وهو بدلٌ ثانٍ من إذ يعدكم لإظهار نعمةٍ أخرى، وصيغةُ الاستقبالِ فيه وفيما عُطف عليه لحكاية الحال الماضيةِ كما في تستغيثون، أو منصوبٌ بإضمار اذكُروا، وقيل: هو متعلقٌ بالنصر أو بما في (من عند الله) من معنى الفعلِ، أو بالجعل وليس بواضح، وقرىء يُغْشيكم من الإغشاء بمعنى التغشية، والفاعلُ في الوجهين هو الباري تعالى وقرىء يغشاكم على إسناد الفعل إلى النعاس وقوله تعالى: { أَمَنَةً مّنْهُ } على القراءتين الأُوليـين منصوبٌ على العلية بفعل مترتبٍ على الفعل المذكور أي يغشيّكم النعاسَ فتنعَسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كَلالاً وإعياءً أو على أنه مصدرٌ لفعل آخرَ كذلك أي فتأمنون أمناً كما في قوله تعالى:وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [آل عمران: 37] على أحد الوجهين، وقيل: منصوبٌ بنفس الفعلِ المذكورِ، والأَمَنةُ بمعنى الأمان وعلى القراءة الأخيرة منصوبٌ على العِلّية بـيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدرٌ لفعل مترتبٍ عليه كما مر، وقرىء أمْنةً كرحمة { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ٱلسَّمَاء مَاءً } تقديمُ الجار والمجرور على المفعول به لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له، فعند ورودِه يتمكّن عندها فضلُ تمكنٍ، وتقديمُ عليكم لما أن بـيانَ كونِ التنزيلِ عليهم أهمَّ من بـيان كونه من السماء وقرىء بالتخفيف من الإنزال { لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } أي من الحديث الأصغرِ والأكبر.

{ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } الكلامُ في تقديم الجارّ والمجرور كما مر آنفاً، والمرادُ برجز الشيطانِ وسوستُه وتخويفُه إياهم من العطش. (روي أنهم نزلوا في كَثيب أعفرَ تسوخُ فيه الأقدامُ على غير ماءٍ وناموا فاحتلم أكثرُهم وقد غلب المشركون على الماء فتمثل لهم الشيطانُ فوسوس إليهم وقال: أنتم يا أصحابَ محمدٍ تزعُمون أنكم على الحق، وإنكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطِشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكمِ هؤلاءِ على الماء، وما ينتظرون بكم إلا أن يَجهدَكم العطشُ فإذا قطَع أعناقَكم مشَوا إليكم فقتلوا مَنْ أحبّوا وساقوا بقيتَكم إلى مكة فحزِنوا حُزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله عز وجل المطرَ فمُطِروا ليلاً حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضأوا وسَقَوا الرِكابَ وتلبّد الرملُ الذي كان بـينهم وبـين العدوِّ حتى ثبتت عليه الأقدامُ وزالت وسوسةُ الشيطانِ وطابت النفوسُ وقوِيَت القلوبُ) وذلك قوله تعالى: { وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } أي يقوّيها بالثقة بلُطف الله تعالى فيما بعدُ بمشاهَدة طلائعِه { وَيُثَبّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ } فلا تسوخ في الرمل، فالضميرُ للماء كالأول ويجوز أن يكون للربط فإن القلبَ إذا قوِي وتمكّن فيه الصبرُ والجَراءةُ لا تكاد تزِلُّ القدمُ في معارك الحروب.