الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } * { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ ٱلْخَاسِرِينَ } * { فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }

{ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } أي الزلزلة وهكذا في سورة العنكبوت وفي سورة هود:وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } [هود: 94] أي صيحةُ جبريلَ عليه السلام، ولعلها من مبادىء الرجفةِ فأُسند هلاكُهم إلى السبب القريبِ تارةً وإلى البعيد أخرى { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } أي في مدينتهم, وفي سورة هودٍ في ديارهم { جَـٰثِمِينَ } أي ميّتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منها { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } استئنافٌ لبـيان ابتلائِهم بشؤم قولِهم فيما سبق:لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا } [الأعراف: 88] وعقوبتِهم بمقابلته، والموصولُ مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي استُؤصِلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلاً أي عوقبوا بقولهم ذلك وصاروا هم المُخرَجين من القرية إخراجاً لا دخولَ بعده أبداً وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ٱلْخَـٰسِرِينَ } استئنافٌ آخرُ لبـيان ابتلائِهم بعقوبة قولِهم الأخيرِ، وإعادةُ الموصولِ والصلةِ كما هي لزيادة التقريرِ والإيذانِ بأن ما ذكر في حيز الصلةِ هو الذي استوجب العقوبتين أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا المتبعون له عليه الصلاة والسلام، وبهذا القصر اكتُفي عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام كما وقع في سورة هود من قوله تعالى:وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } [هود: 94] الخ.

{ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَـٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ } قاله عليه الصلاة والسلام بعد ما هلكوا تأسفاً بهم لشدة حزنِه عليهم ثم أنكر على نفسه ذلك فقال: { فَكَيْفَ ءاسَىٰ } أحزن حزناً شديداً { عَلَىٰ قَوْمٍ كَـٰفِرِينَ } أي مُصِرِّين على الكفر ليسوا أهلَ حزنٍ لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم، أو قاله اعتذاراً عن عدم شدة حزنِه عليهم، والمعنى لقد بالغتُ في الإبلاغ والإنذار وبذلتُ وُسعي في النصح والإشفاقِ فلم تُصدِّقوا قولي فكيف آسى عليكم وقرىء إيسى بإمالتين.

{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } إشارةٌ إجمالية إلى بـيان أحوالِ سائرِ الأمم إثرَ بـيان أحوالِ الأممِ المذكورة تفصيلاً، ومِنْ مزيدةٌ لتأكيد النفي والصفةُ محذوفةٌ أي من نبـي كُذِّب أو كذَّبه أهلُها { إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا } استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوالِ، وأخذنا في محل النصب من فاعل أرسلنا والفعلُ الماضي لا يقع بعد إلا بأحد شرطين إما تقديرِ قد كما في هذه الآية أو مقارَنةِ قد، كما في قولك: ما زيد إلا قد قام والتقديرُ وما أرسلنا في قرية من القرى المُهلَكة نبـياً من الأنبـياء في حال من الأحوال إلا حالَ كونِنا آخذين أهلَها { بِٱلْبَأْسَاء } بالبؤس والفقرِ { وَٱلضَّرَّاء } بالضُّرّ والمرض، لكن لا على معنى أن ابتداءَ الإرسالِ مقارِنٌ للأخذ المذكورِ بل على أنه مستتبِعٌ له غيرُ منفكٍّ عنه بالآخرة لاستكبارهم عن اتباع نبـيِّهم وتعزُّزِهم عليه حسبما فعلت الأممُ المذكورة { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } كي يتضرعوا ويتذللوا ويحُطّوا أرديةَ الكِبْر والعزةِ عن أكتافهم كقوله تعالى:وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [الأنعام: 42].