الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } * { قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ }

{ وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِٱلَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ } من الشرائع والأحكام { وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } أي به أو لم يفعلوا الإيمان { فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا } أي بـين الفريقين بنصر المُحقّين على المبطلين فهو وعدٌ للمؤمنين ووعيدٌ للكافرين { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ } إذ لا معقِّبَ لحكمه ولا حَيْفَ فيه.

{ قَالَ ٱلْمَلاَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ } استئنافٌ مبنيٌ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل: فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظَ من شعيبٍ عليه السلام؟ فقل: قال أشرافُ قومِه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غيرَ مكتفِين بمجرد الاستعصاءِ عليه والامتناعِ من الطاعة له بل بالغين من العُتوّ والاستكبارِ إلى أن قصَدوا استتباعَه عليه السلام فيما هم فيه وأتباعَه المؤمنين واجترأوا على إكراههم عليه بوعيد النفي وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيدِ القسمي: { لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } بنسبة الإخراجِ إليه عليه السلام أولاً وإلى المؤمنين ثانياً بعطفهم عليه تنبـيهاً على أصالته عليه السلام في الإخراج وتبعيتِهم له فيه كما ينبىء عنه قوله تعالى: { مَعَكَ } فإنه متعلقٌ بالإخراج لا بالإيمان وتوسيطُ النداءِ باسمه العَلَميِّ بـين المعطوفَين لزيادة التقريرِ والتهديدِ الناشئةِ من غاية الوقاحةِ والطغيان، أي والله لنُخرجنّك وأتباعَك { مِن قَرْيَتِنَا } بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المترتبةِ على المساكنة والجِوارِ، وقوله تعالى: { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } عطفٌ على جواب القسم، أي والله ليكونن أحدُ الأمرين ألبتة، على أن المقصِدَ الأصليَّ هو العَوْدُ، وإنما ذُكر النفيُ والإجلاءُ لمحض القسر والإلجاءِ كما يُفصِحُ عنه عدمُ تعرُّضِه عليه السلام لجواب الإخراجِ كأنهم قالوا: لا ندعكم فيما بـيننا حتى تدخُلوا في ملتنا، وإدخالُهم له عليه السلام في خطاب العَوْدِ مع استحالة كونِه عليه السلام في ملتهم قبل ذلك إنما هو بطريق تغليبِ الجماعةِ على الواحد وإنما لم يقولوا: أو لنُعيدنّكم على طريقة ما قبله لِما أن مُرادَهم أن يعودوا إليها بصورة الطواعيةِ حِذارَ الإخراجِ باختيار أهونِ الشرَّين لا إعادتُهم بسائر وجوهِ الإكراهِ والتعذيب.

{ قَالَ } استئنافٌ كما سبق أي قال عليه السلام رداً لمقالتهم الباطلةِ وتكذيباً لهم في أَيْمانهم الفاجرة: { أَوْ لَوْ كُنَّا كَـٰرِهِينَ } على أن الهمزةَ لإنكار الوقوعِ ونفيِه لا لإنكار الواقعِ واستقباحِه كالتي في قوله تعالى:أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ } [الشعراء: 30] ويجوز أن يكون الاستفهامُ فيه باقياً على حاله وقد مر مراراً أن كلمةَ لو في مثل هذا المقامِ ليست لبـيان انتفاءِ الشيءِ في الزمن الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها عليه ملاحظةً قصديةً إلا عند القصدِ إلى بـيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبـيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابقُ بالذات أو بالواسطة من الحُكم الموجَب أو المنفي على كل حال مفروضٍ من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهر بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولويةِ لِما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويِّ فلأَن يتحققَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكرُ معه شيءٌ من سائر الأحوال ويُكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاملةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها، وهذا معنى قولِهم: إنها لاستقصاء الأحوالِ على سبـيل الإجمالِ، وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي كما في قولك: فلانٌ جوادٌ يعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يعطي ولو كان غنياً، وكقولك: أحسنْ إليه ولو أساء إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك لبقائه على حاله سالماً عما يغيّره، وأما فيما نحنُ فيه ففيه نوعُ خفاءٍ لتغيّره بورود الإنكارِ عليه، لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ لو في الصور المذكورةِ متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصد بـيانُ تحققِه على كل حال هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيز لو مقرّرٌ على ما هو عليه من الاستبعاد، بخلاف ما نحن فيه، لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بـيانُ تحققِه على كل حال هو مدلولُه لا مدلولُ المذكورِ وأن الجملةَ حالٌ من ضميره لا من ضمير المذكورِ كما سيأتي أو المقصودُ الأصلي إنكارُ مدلولِه من حيث مقارنتُه للحالة المذكورةِ، وأما تقديرُ مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرةِ وأن ما في حيز (لو) لا يقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أمرٌ مقرّرٌ إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ مبالغةً في الإنكار من جهة أن العودَ مما يُنكر عند كونِ الكراهةِ أمراً مستعداً فكيف به عند كونِها أمراً محققاً ومعاملةً مع المخاطَبـين على معتقدِهم لاستنزالهم من رتبة العِناد؟ وليس المرادُ بالكراهة مجردَ كراهةِ المؤمنين للعود في ملة الكفرِ ابتداءً حتى يقال إنها معلومةٌ لهم فكيف تكون مستبعدةً عندهم بل إنما هي كراهتُهم له بعد وعيدِ الإخراجِ الذي جُعل قريناً للقتل في قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4