الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } * { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } * { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } أي دعاؤهم واستغاثتُهم ربَّهم أو ما كانوا يدّعونه من دينهم وينتحِلونه من مذهبهم { إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا } عذابُنا وعاينوا أَماراتَه { إِلاَّ أَن قَالُواْ } جميعاً { إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } أي إلا اعترافَهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتَهم ببطلانه تحسراً عليه وندامةً وطمعاً في الخلاص، وهيهاتَ ولاتَ حينَ نجاةٍ { فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } بـيانٌ لعذابهم الأخرويِّ إثرَ بـيانِ عذابِهم الدنيويِّ خلا أنه قد تعرض لبـيان مبادي أحوالِ المكلفين جميعاً لكونه أدخلَ في التهويل، والفاءُ لترتيب الأحوالِ الأخرويةِ على الدنيوية ذِكراً حسَبَ ترتبها عليها وجوداً، أي لنسألن الأممَ قاطبةً قائلين: ماذا أجبتم المرسلين؟ { وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين } عما أُجيبوا قال تعالى:يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [المائدة، الآية 109] والمرادُ بالسؤال توبـيخُ الكفرة وتقريعُهم، والذي نُفيَ بقوله تعالى:وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } [القصص الآية:78] سؤالُ الاستعلامِ أو الأولُ في موقف الحساب والثاني في موقف العقاب { فَلَنَقصَنَّ عَلَيهِم } أي على الرسل حين يقولون: لا علم لنا إنك أنت علامُ الغيوب، أو عليهم وعلى المرسَل إليهم جميعاً ما كانوا عليه { بِعِلْمِ } أي عالمين بظواهرهم وبواطنِهم أو بعلومنا منهم { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيءٌ من أعمالهم وأحوالِهم، والجملةُ تذيـيلٌ مقرِّر لما قبلها.

{ وَٱلْوَزْنُ } أي وزنُ الأعمالِ والتميـيزُ بـين راجحِها وخفيفِها وجيّدِها ورديئها، ورفعُه على الابتداء، وقولُه تعالى: { يَوْمَئِذٍ } خبرُه وقوله تعالى: { ٱلْحَقّ } صفتُه، أي والوزنُ الحقُّ ثابتٌ يومَ إذ يكون السؤالُ والقَصّ، وقيل: خبرُ مبتدأ محذوفٍ كأنه قيل: ما ذلك الوزن؟ فقيل: الحقُّ أي العدلُ السويُّ، وقرىء القسطُ واختُلف في كيفية الوزن والجمهورُ على أن صحائفَ الأعمالِ هي التي توزن بميزان له لسانٌ وكِفّتان ينظُر إليه الخلائقُ إظهاراً للمَعْدلة وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتُهم وجوارحُهم ويشهد عليهم الأنبـياءُ والملائكةُ والأشهادُ وكما يُثبَتُ في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب، ويؤيده ما رُوي " أن الرجلَ يؤتىٰ به إلى الميزان فيُنشر له تسعةٌ وتسعون سجِلاًّ مدى البصر فيخرُج له بطاقةٌ فيها كلمتا الشهادة فتوضَع السجلاتُ في كِفة والبِطاقةُ في كفة فتطيش السجلاتُ وتثقُل البطاقةُ " وقيل: يوزن الأشخاصُ لما روي عنه عليه الصلاة والسلام: " أنه ليأتي العظيمُ السمينُ يوم القيامة لا يزنُ عند الله جناحَ بعوضة " وقيل: الوزنُ عبارة عن القضاء السويِّ والحُكمُ العادلُ وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك واختاره كثيرٌ من المتأخرين بناءً على أن استعمالَ لفظِ الوزنِ في هذا المعنى شائعٌ في اللغة والعُرفِ بطريق الكناية قالوا: إن الميزانَ إنما يُراد به التوصلُ إلى معرفة مقاديرِ الشيءِ، ومقاديرُ أعمالِ العباد لا يمكن إظهارُها بذلك لأنها أعراضٌ قد فَنِيَت وعلى تقدير بقائها لا تَقبل الوزن، وقيل: إن الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسن والقبحِ حتى إن الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حُمل قوله تعالى:

السابقالتالي
2