الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ } * { أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلٰتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } * { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } استئنافٌ كما مر وإنما وُصف الملأُ بالكفر إذْ لم يكن كلُّهم على الكفر كملأ قومِ نوحٍ بل كان منهم من آمن به عليه السلام ولكن كان يكتُم إيمانَه كمرثد بن سعد، وقيل: وُصفوا به لمجرد الذم { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } أي متمكناً في خِفّة عقلٍ راسخاً فيها حيث فارقتَ دينَ آبائِك، ألا إنهم هم السفهاءُ ولكن لا يعلمون { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } أي فيما ادعيْتَ من الرسالة، قالوه لعراقتهم في التقليد وحِرمانِهم من النظر الصحيح { قَالَ } مستعطفاً لهم ومستميلاً لقلوبهم مع ما سمع منهم ما سمع من الكلمة الشنعاءِ الموجبةِ لتغليظ القولِ والمشافهةِ بالسوء { يَـٰقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ } أي شيءٌ منها ولا شائبةٌ من شوائبها { وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزمه ويقتضيه من كونه في الغاية القصوىٰ من الرُّشد والأناةِ والصدقِ والأمانة، فإن الرسالةَ من جهة ربِّ العالمين موجبةٌ لذلك حتماً، كأنه قيل: ليس بـي شيءٌ مما نسبتموني إليه ولكني في غاية ما يكون الرشدُ والصِّدقُ. ولم يصرِّحْ بنفي الكذِب اكتفاءً بما في حيز الاستدراك. و(من) لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لرسولٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وقولُه تعالى: { أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّى } استئنافٌ سيق لتقرير رسالتِه وتفصيلِ أحوالِها، وقيل: صفة أخرى لرسولٌ والكلامُ في إضافة الربِّ إلى نفسه عليه السلام بعد إضافته إلى العالمين وكذا في جمع الرسالاتِ كالذي مر في قصة نوحٍ عليه السلام، وقرىء أُبْلِغُكم من الإبلاغ { وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } معروفٌ بالنصح والأمانةِ مشهورٌ بـين الناس بذلك، وإنما جيء بالجملة الاسميةِ دِلالةً على الثبات والاستمرار وإيذاناً بأن من هذا حالُه لا يحوم حولَه شائبةُ السفاهةِ والكذب.

{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ } الكلامُ فيه كالذي مر في قصة نوح عليه السلام { عَلَىٰ رَجُلٍ مّنكُمْ } أي من جنسكم { لِيُنذِرَكُمْ } ويحذرَكم عاقبةَ ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي حتى نسبتموني إلى السفاهة والكذبِ، وفي إجابة الأنبـياءِ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين من يشافِهُهم بما لا خير فيه من أمثال تلك الأباطيلِ ـ بما حُكيَ عنهم من المقالات الحقة المعربة عن نهاية الحلم والرزانة وكمالِ الشفقةِ والرأفة، من الدلالة على حيازتهم القدحَ المُعلَّى من مكارم الأخلاق ـ ما لا يخفى مكانُه.

{ وَٱذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء } شروعٌ في بـيان ترتيبِ أحكامِ النصح والأمانةِ والإنذارِ وتفصيلِها، وإذ منصوبٌ باذكروا على المفعولية دون الظرفية، وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجابَ ذكرِ الوقت إيجابٌ لذكر ما فيه بالطريق البرهاني، ولأن الوقتَ مشتملٌ عليها، فإذا استُحضر كانت هي حاشرةً بتفاصيلها كأنها مشاهَدةٌ عياناً، ولعله معطوفٌ على مقدر كأنه قيل: لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا وقتَ جعْلِه تعالى إياكم خلفاءَ { مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي في مساكنهم أو الأرض بأن جعلكم ملوكاً، فإن شدادَ بنَ عاد ممن ملك معمورةَ الأرضِ من رمل عالِجٍ إلى شجر عمان { وَزَادَكُمْ فِى ٱلْخَلْقِ } أي في الإبداع والتصوير أو في الناس { بَسْطَةً } قامةً وقوةً فإنه لم يكن في زمانهم مثلُهم في عِظَم الأجرام، قال الكلبـي والسدي كانت قامةُ الطويلِ منهم مائةَ ذراعٍ وقامةُ القصير ستين ذراعاً { فَٱذْكُرُواْ ءالآء ٱللَّهِ } التي أنعم بها الله عليكم من فنون النَّعماءِ التي هذه من جملتها.

السابقالتالي
2