الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ } هو جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله لقد أرسلنا الخ، واطّرادُ استعمالِ هذه اللامِ مع قد لكون مدخولِها مَظِنّةً للتوقع الذي هو معنى قد، فإن الجملة القسَميةَ إنما تُساق لتأكيد الجملةِ المُقسَم عليها، ونوحٌ هو ابنُ لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريسُ النبـيُّ عليهما السلام. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بُعث عليه السلام على رأس أربعين سنةً من عمره ولبِث يدعو قومه تسعَمِائةٍ وخمسين سنةً وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنةً فكان عمرُه ألفاً ومائتين وأربعين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابنُ مائةِ سنةٍ وقيل: وهو ابنُ مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمُرُه ألفاً وأربَعَمِائةٍ وخمسين سنة { فَقَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } أي اعبدوه وحدَه، وتركُ التقيـيدِ به للإيذان بأنها العبادةُ حقيقةً، وأما العبادةُ بالإشراك فليست من العبادة في شيء وقوله تعالى: { مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي من مستحِقَ للعبادة، استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل العبادةِ المذكورةِ أو الأمرِ بها، وغيرُه بالرفع صفةٌ لإلٰهٍ باعتبار محلِّه الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية، وقرى بالجر باعتبار لفظه، وقرىء بالنصب على الاستثناء وحكمُ غيرٍ حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد إلا أي ما لكم من إلٰه إلا إياه كقولك: ما في الدار من أحد إلا زيداً أو غيرَ زيدٍ، فمن إلٰهٍ إن جعل مبتدأً فلكم خبرُه، أو خبرُه محذوفٌ ولكم للتخصيص والتبـيـين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إلٰهٌ غيرُ الله { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي إن لم تعبُدوه حسْبما أُمرت به { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يومُ القيامة أو يومُ الطوفان، والجملةُ تعليلٌ للعبادة ببـيان الصارفِ عن تركها إثرَ تعليلِها ببـيان الداعي إليها، ووصفُ اليومِ بالعِظَم لبـيان عظيمِ ما يقع فيه وتكميلِ الإنذار.

{ قَالَ ٱلْمَلأ مِن قَوْمِهِ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية قولِه عليه الصلاة والسلام كأنه قيل: فماذا قالوا له عليه الصلاة والسلام في مقابلة نصحِه؟ فقيل: قال الرؤساءُ من قومه والأشرافُ الذين يملأون صدورَ المحافل بإجرامهم والقلوبَ بجلالهم وهيبتِهم والأبصارَ بجمالهم وأُبّهتهم { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـٰلٍ } أي ذهاب عن طريق الحقِّ والصواب، والرؤيةُ قلبـيةٌ ومفعولاها الضميرُ والظرفُ { مُّبِينٌ } بـيّنٌ كونُه ضلالاً.

{ قَالَ } استئناف كما سبق { يَاقَوْمِ } ناداهم بإضافتهم إليه استمالةً لقلوبهم نحو الحق { لَيْسَ بِى ضَلَـٰلَةٌ } أيُّ شيءٍ ما من الضلال، قصد عليه الصلاة والسلام تحقيقَ الحق في نفي الضلالِ عن نفسه رداً على الكفرة حيث بالغوا في إثباته له عليه الصلاة والسلام حيث جعلوه مستقراً في الضلال الواضِحِ كونُه ضلالاً، وقوله تعالى: { وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزِمه من كونه في أقصى مراتبِ الهداية، فإن رسالةَ ربِّ العالمين مستلزِمةٌ لا محالة، كأنه قيل: ليس بـي شيءٌ من الضلال ولكني في الغاية القاصيةِ من الهداية. ومن لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرسولٌ مؤكدةٌ لما يفيده التنوينُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافيةِ أي رسولٌ ـ وأيُّ رسولٍ ـ كائنٌ من رب العالمين.