الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } * { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }

{ خُذِ ٱلْعَفْوَ } بعد ما عُدّ من أباطيلِ المشركين وقبائحِهم ما لا يطاق تحمُّله أُمر عليه الصلاة والسلام بمجامع مكارمِ الأخلاق التي من جملتها الإغضاءُ عنهم، أي خذْ ما عفا لك من أفعال الناسِ وتسهل ولا تكلِّفْهم ما يشُقُّ عليهم، من العفو الذي هو ضدُّ الجَهدِ، أو خذ العفوَ من المذنبـين أو الفضلَ من صدقاتهم وذلك قبل وجوبِ الزكاة { وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } بالجميل المستحسَن من الأفعال فإنها قريبةٌ من قَبول الناس من غير نكير { وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ } من غير مماراةٍ ولا مكافأة، قيل: (لما نزلت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام فقال: لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال: يا محمدُ إن ربك أمرك أن تصِل مَنْ قطعك وتعطيَ من حَرَمك وتعفُوَ عمّن ظلمك) وعن جعفرٍ الصادقِ: أمر الله تعالى نبـيَّه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وروي أنه لما نزلت الآيةُ الكريمةُ قال عليه الصلاة والسلام: " كيف يا ربّ والغضبُ متحقق؟ " فنزل قوله تعالى: { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ } النزغُ والنسْغُ والنخْسُ: الغرزُ شُبّهت وسوستُه للناس وإغراؤه لهم على المعاصي بغَرْز السائق لما يسوقه، وإسنادُه إلى النزغ من قَبـيل جَدّ جِدُّه أي وإما يحمِلنّك من جهته وسوسةٌ ما على خلاف ما أُمرتَ به من اعتراء غضبٍ أو نحوه { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } فالتجِىءْ إليه تعالى من شره { إِنَّهُ سَمِيعٌ } يسمع استعاذتَك به قولاً { عَلِيمٌ } يعلم تضرُّعَك إليه قلباً في ضمن القولِ أو بدونه فيعصمُك من شره. وقد جُوّز أن يرادَ بنزغ الشيطانِ اعتراءُ الغضبِ على نهج الاستعارة كما في قول الصديقِ رضي الله عنه: إن لي شيطاناً يعتريني. ففيه زيادةُ تنفيرٍ عنه وفرطُ تحذيرٍ عن العمل بموجبه، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويلٌ لأمره وتنبـيهٌ على أنه من الغوائل الصعبةِ التي لا يُتخَلّص من مَضَرَّتها إلا بالالتجاء إلى حُرَم عصمتِه عز وجل، وقيل: يعلم ما فيه صلاحُ أمرِك فيحملك عليه، أو سميعٌ بأقوال مَنْ آذاك عليمٌ بأفعاله فيجازيه عليها.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } استئنافٌ مقررٌ لما قبله ببـيان أن ما أمر به عليه الصلاة والسلام من الاستعاذة بالله تعالى سنةٌ مسلوكةٌ للمتقين والإخلالُ بها ديدنُ الغاوين، أي إن الذين اتصفوا بوقاية أنفسِهم عما يضُرّها { إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } أدنىٰ لمّةٍ منه، على أن تنوينَه للتحقير وهو اسمُ فاعلِ يطوف، كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقِعَ بهم، أو من طاف به الخيالُ يطيفُ طيفاً أي ألمَّ وقرىء طيفٌ على أنه مصدر، أو تخفيفٌ من طيِّف من الواوي أو اليائي كهيّن وليّن، والمرادُ الشيطان الجنسُ ولذلك جُمع ضميرُه فيما سيأتي { تَذَكَّرُواْ } أي الاستعاذةَ به تعالى والتوكلَ عليه { فَإِذَا هُم } بسبب ذلك التذكّرِ { مُّبْصِرُونَ } مواقِعَ الخطأ ومكايدَ الشيطانِ فيحترزون عنها ولا يتبعونه.