الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }

{ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } شروعٌ في تحقيق الحقِّ الذي به يهدي الهادون وبه يعدِل العادلون، وحملُ الناسِ على الأهتداء به على وجه الترهيب، ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه ما بعده من الجملة الاستقبالية، وإضافةُ الآياتِ إلى نون العظمةِ لتشريفها واستعظامِ الإقدام على تكذيبها، أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيارُ الحقِّ ومصداقُ الصدقِ والعدل { سَنَسْتَدْرِجُهُم } أي نستدنيهم البتةَ إلى الهلاك شيئاً فشيئاً، والاستدراجُ استفعالٌ من درَجَ إما بمعنى صعِد ثم اتُسِع فيه فاستُعمل في كل نقل تدريجيَ سواءٌ كان بطريق الصعودِ أو الهبوط أو الاستقامة، وإما بمعنى مشىٰ مشياً ضعيفاً، وإما بمعنى طوَى، والأولُ هو الأنسبُ بالمعنى المرادِ الذي هو النقلُ إلى أعلى درجاتِ المهلكِ ليبلُغ أقصى مراتبِ العقوبة والعذاب، ثم استعير لطلب كل نقل تدريجيَ من حال إلى حال من الأحوال الملائمةِ للمنتقل الموافقةِ لهواه بحيث يزعُم أن ذلك ترقَ في مراقي منافعِه مع أنه في الحقيقة تردَ في مهاوي مصارعِه، فاستدراجُه سبحانه إياهم أن يواتِرَ عليهم بالنعم مع انهماكهم في الغيّ فيحسَبوا أنها لُطفٌ لهم منه تعالى فيزدادوا بطراً وطغياناً لكن لا على أن المطلوبَ تدرُّجُهم في مراتب النعمِ بل هو تدرجُهم في مدارج المعاصي إلى أن يحِقَّ عليهم كلمةُ العذاب على أفظع حالٍ وأشنعها، والأولُ وسيلةٌ إليه وقوله تعالى: { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } متعلقٌ بمضمر وقع صفةً لمصدر الفعلِ المذكور، أي سنستدرجهم استدراجاً كائناً من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسَبون أنه أثَرةٌ من الله عز وجل وتقريبٌ منه، وقيل: لا يعلمون ما يراد بهم.

{ وَأُمْلِى لَهُمْ } عطفٌ على سنستدرجهم غيرُ داخلٍ في حكم السين، لِما أن الإملاء الذي هو عبارةٌ عن الإمهال والإطالةِ ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصلِ في نفسه شيئاً فشيئاً، بل هو فعلٌ يحصُل دفعةً، وإنما الحاصلُ بطريق التدريج آثارهُ وأحكامهُ لا نفسُه كما يلوح به تغيـيرُ التعبـيرِ بتوحيد الضميرِ مع ما فيه من الافتتان المنبىءِ عن مزيد الاعتناءِ بمضمون الكلامِ لابتنائه على تجديد القصدِ والعزيمة، وأما أن ذلك للإشعار بأنه بمحض التقديرِ الإلٰهيِّ والاستدراجِ بتوسط المدبّرات فمبْناه دِلالةُ نونِ العظمةِ على الشركة وأنى ذلك، وإلا لاحتُرز عن إيرادها في قوله تعالى:وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ } [آل عمران: 178] الآية، بل إنما إيرادُها في أمثال هذه المواردِ بطريق الجَرَيانِ على سَننِ الكبرياء { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } تقريرٌ للوعيد وتأكيدٌ له أي قويٌّ لا يُدافع بقوة ولا بحيلة، والمرادُ به إما الإستدراجُ والإملاءُ مع نتيجتهما التي هي الآخذُ الشديدُ على غِرّة فتسميتُه كيداً لما أن ظاهرَه لطفٌ وباطنَه قهرٌ، وإما نفسُ ذلك الأخذِ فقط فالتسميةُ لكون مقدماتِه كذلك، وأما أن حقيقةَ الكيدِ، هو الأخذُ على خفاء من غير أن يُعتبر فيه إظهارُ خلافِ ما أبطنه فمما لا تعويلَ عليه مع عدم مناسبتِه للمقام ضرورةَ استدعائِه لاعتبار القيدِ المذكورِ حتماً.