الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

{ وَلَوْ شِئْنَا } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبـيان مناطِ ما ذُكر من انسلاخه من الآيات ووقوعِه في مهاوي الغَواية، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المستمرة، أي ولو شئنا رفعَه { لَرَفَعْنَـٰهُ } أي إلى المنازل العاليةِ للأبرار العالمين بتلك الآياتِ العاملين بموجبها، لكن لا بمحض مشيئتِنا من غير أن يكون له دخلٌ في ذلك أصلاً فإنه منافٍ للحكمة التشريعية المؤسسةِ على تعليق الأجزيةِ بالأفعال الاختيارية للعباد، بل مع مباشرته للعمل المؤدِّي إلى الرفع بصرف اختيارِه إلى تحصيله كما ينبىء عنه قوله تعالى: { بِهَا } أي بسبب تلك الآياتِ بأن عمِل بموجبها فإن اختيارَه وإن لم يكن مؤثراً في حصوله ولا في ترتب الرفعِ عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقَه تعالى مَنوطٌ بذلك البتةَ حسب جَرَيان العادةِ الإلٰهية، وقد أشير إلى ذلك في الاستدراك بأن أُسند ما يؤدي إلى نقيض التالي إليه حيث قيل: { وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ } مع أن الإخلادَ إليها أيضاً مما لا يتحقق عند صرف اختيارِه إليه بخلقه تعالى كأنه قيل: لو شئنا رفعَه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التي هي أقوى أسبابِ الرفع ولكن لم نشأْه لمباشرته لسبب نقيضِه فتُرك في كلَ من المقامين ما ذكر في الآخر تعويلاً على إشعار المذكورِ بالمطويّ كما في قوله تعالى:وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } [يونس: 107] وتخصيصُ كلَ من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفعَ مرادٌ له تعالى بالذات وتفضّلٌ محضٌ عليه لا دخلَ فيه لفعله حقيقةً، كيف لا وجميعُ أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضّلاته، وإن نقيضَه إنما أصابه بسوء اختيارِه على موجب الوعيدِ لا بالإرادة الذاتيةِ له سبحانه كما قيل في وجه ذكرِ الإرادةِ مع الخير، والمسِّ مع الضرّ في الآية المذكورةِ وهو الشرُّ في جريان السنة القرآنيةِ على إسناد الخيرِ إليه تعالى وإضافةِ الشرِّ إلى الغير كما في قوله تعالى:وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء: 80] ونظائرِه، والإخلادُ إلى الشيء الميلُ إليه مع الاطمئنان به والمرادُ بالأرض الدنيا وقيل: السفالة، والمعنى ولكنه آثرَ الدنيا الدنيةَ على المنازل السنية، أو الضَّعةَ والسَّفالةَ على الرِفعة والجلالة { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } مُعرِضاً عن تلك الآياتِ الجليلة فانحط أبلغَ انحطاط وارتد أسفلَ سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ } لما أنه أخسُّ الحيوانات وأسفلُها، وقد مُثّل حالُه بأخس أحوالِه وأذلِّها حيث قيل: { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } أي فحالُه التي هي مَثَلٌ في السوء كصفته في أرذل أحوالِه وهي حالةُ دوامِ اللهَثِ به في حالتي التعبِ والراحة فكأنه قيل: فتردّى إلى ما لا غايةَ وراءَه في الخسة والدناءة، وإيثارُ الجملةِ الاسمية على الفعلية بأن يقال: فصار مثلُه كمثل الكلب الخ للإيذان بدوام اتصافِه بتلك الحالةِ الخسيسة وكمالِ استمراره عليها، والخطابُ في فعل الشرطِ لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب فإنه أدخلُ في إشاعة فظاعةِ حالِه، واللهَثُ إدلاعُ اللسانِ بالتنفس الشديد، أي هو ضيِّقُ الحال مكروبٌ دائمُ اللهَثِ سواءٌ هيّجتَه وأزعجتَه بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبعٌ لا تقدِر على نفض الهواءِ المتسخّن وجلبِ الهواءِ البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادِها بخلاف سائر الحيواناتِ فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكربُ والمضايقةُ إلا عند التعب والإعياءِ، والشرطيةُ مع أختها تفسيرٌ لما أُبهم في المثل وتفصيلٌ لما أُجمل فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببـيان وجهِ الشبهِ، لا محلَّ له من الإعراب على منهاج قوله تعالى:

السابقالتالي
2