الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } * { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ }

{ وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيّئَاتِ } أيَّ سيئةٍ كانت. { ثُمَّ تَابُواْ } عن تلك السيئات { مِن بَعْدِهَا } أي من بعد عملها { وَءامَنُواْ } إيماناً صحيحاً خالصاً واشتغلوا بإقامة ما هو من مقتضياته من الأعمال الصالحةِ ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا كالطائفة الأولى { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي من بعد تلك التوبةِ المقرونةِ بالإيمان { لَغَفُورٌ } للذنوب وإن عظُمت وكثُرت { رَّحِيمٌ } مبالِغٌ في إفاضة فنونِ الرحمةِ الدنيويةِ والأخروية، والتعرّضُ لعنوان الربوبـيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للتشريف.

{ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ } شروعٌ في بـيان بقيةِ الحكايةِ إثرَ ما بـيّن تحزب القوم إلى مصر وتائب والإشارةِ إلى مآل كلٍّ منهما إجمالاً أي لما سكن عنه الغضبُ باعتذار أخيه وتوبةِ القوم، وهذا صريحٌ في أن ما حُكي عنهم من الندم وما يتفرّع عليه كان بعد مجيءِ موسى عليه الصلاة والسلام، وفي هذا النظم الكريمِ من البلاغة والمبالغةِ بتنزيل الغضبِ الحاملِ له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزلةَ الآمرِ بذلك المُغري عليه بالتحكم والتشديد، والتعبـيرِ عن سكوته بالسكوت ما لا يخفى، وقرىء سَكَن وسكَت وأسكتَ على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون { أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ } التي ألقاها { وَفِى نُسْخَتِهَا } أي فيما نُسخ فيها وكُتب، فُعلة بمعنى مفعول كالخُطبة وقيل: فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة { هُدًى } أي بـيانٌ للحق { وَرَحْمَةً } للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخيرُ والصلاح { لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } اللامُ الأولى متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرحمة أي كائنةٌ لهم أو هي لامُ الأجَل أي هدى ورحمةٌ لأجلِهم، والثانيةُ لتقوية عمل الفعلِ المؤخّر كما في قوله تعالى:إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43] أو هي أيضاً لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي يرهبون المعاصيَ لأجل ربهم لا للرياء والسمعة { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } شروعٌ في بـيان كيفية استدعاءِ التوبةِ وكيفية وقوعِها واختار يتعدّى إلى اثنين ثانيهما مجرورٌ بمن أي اختار من قومه بحذف الجارّ والمجرور وإيصالِ الفعل إلى المجرور كما في قوله:
اختارك الناسَ إذْ رثَّتْ خلائِقُهم   واعتلّ مَنْ كان يُرجَى عنده السُّولُ
أي اختارك من الناس { سَبْعِينَ رَجُلاً } مفعولٌ لاختار أُخِّر عن الثاني لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر { لّمِيقَـٰتِنَا } الذي وقتناه بعد ما وقع من قومه ما وقع لا لميقاتِ الكلام الذي ذكر قبل ذلك كما قيل. قال السدي: أمره الله تعالى بأن يأتيَه في ناس من بني إسرائيلَ يعتذرون إليه من عبادة العجلِ ووعدهم موعداً فاختار عليه السلام من قومه سبعين رجلاً. وقال محمد بن إسحَاقَ: اختارهم ليتوبوا إليه تعالى مما صنعوه ويسألوه التوبةَ على مَنْ تركوهم وراءهم من قومهم، قالوا: اختار عليه الصلاة والسلام من كل سِبطٍ ستةً فزاد اثنانِ فقال: ليتخَلَّفْ منكم رجلان فتشاحّوا فقال عليه الصلاة والسلام: إن لمن قعد مثلَ أجرِ من خرج فقعد كالبُ ويوشَعُ وذهب من الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويُطهِّروا ثيابهم فخرج بهم إلى طور سَيْنا فلما دنَوا من الجبل غشِيَه غمامٌ فدخل موسى بهم الغمامَ وخرّوا سُجّداً فسمِعوه تعالى يكلم موسى يأمرُه وينهاه حسبما يشاءُ وهو الأمرُ بقتل أنفسِهم توبةً { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } مما اجترأوا عليه من طلب الرؤيةِ فإنه يُروىٰ أنه لما انكشف الغمامُ أقبلوا إلى موسى عليه السلام وقالوا: لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتهم الرجفةُ أي الصاعقةُ أو رجفةُ الجبل فصُعِقوا منها أي ماتوا ولعلهم أرادوا بقولهم: لن نؤمنَ لك، لن نصدِّقك في أن الآمِرَ بما سمعنا الأمرَ بقتل أنفسِهم هو الله تعالى حتى نراه حيث قاسوا رؤيتَه تعالى على سماع كلامِه قياساً فاسداً.

السابقالتالي
2