الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }

وقوله تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـٰتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ } استئنافٌ مَسوقٌ لتحذيرهم عن التكبر الموجبِ لعدم التفكرِ في الآيات التي هي ما كتب في ألواح التوراةِ من المواعظ والأحكامِ أو ما يعمُّها وغيرَها من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما وعد إراءَته من الفاسقين ومعنى صرفِهم عنها الطبعُ على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله تعالى:فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر مع أن في المؤخَّرِ نوعَ طُولٍ يُخِل تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الجليلِ أي سأطبع على قلوب الذين يعدّون أنفسَهم كُبراءَ ويرَوْن لهم على الخلق مزِيةً وفضلاً فلا ينتفعون بآياتي التنزيليةِ والتكوينيةِ ولا يغتنمون مغانمَ آثارِها، فلا تسلُكوا مسلكَهم فتكونوا أمثالَهم، وقي: المعنى سأصرِفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعونُ في إبطال ما رآه من الآيات فأبى الله تعالى إلا إحقاقَ الحقِّ وإزهاقَ الباطل، وعلى هذا فالأنسبُ أن يُرادَ بدار الفاسقين أرضُ الجبابرةِ والعمالقةِ المشهورين بالفسق والتكبر في الأرض وبإراءتها للمخاطَبـين إدخالُهم الشامَ وإسكانُهم في مساكنهم ومنازلِهم حسبما نطَق به قولُه تعالى:يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21] ويكون قولُه تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـٰتِي } الخ، جواباً عن سؤال مقدر ناشىءٍ من الوعد بإدخال الشامِ على أن المرادَ بالآيات ما تُلي آنفاً ونظائرُه، وبصرفهم عنها إزالتُهم عن مَقام معارضتِها وممانعتِها لوقوع أخبارِها وظهور أحكامِها وآثارِها بإهلاكهم على يد موسى عليه الصلاة والسلام حين سار بعد التّيهِ بمن بقيَ من بني إسرائيلَ أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين إلى أريحا ويوشعُ بنُ نونٍ في مقدمته ففتحها واستقر بنو إسرائيلَ بالشام وملكوا مشارقَها ومغاربَها كأنه قيل: كيف يرون دارهم وهم فيها؟ فقيل: سأُهلِكُهم، وإنما عدل إلى الصَرْف ليزدادوا ثقةً بالآيات واطمئناناً بها وقوله تعالى: { بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } إما صلةٌ للتكبر أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينُهم الباطلُ وظلمُهم المُفْرِطُ أو متعلق بمحذوف هو حالٌ من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وقوله تعالى { وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها } عطفٌ على يتكبرون داخلٌ معه في حُكم الصلةِ والمرادُ بالآية إما المنزلةُ فالمرادُ برؤيتها مشاهدتُها بسماعها أو ما يعمُّها من المعجزات فالمرادُ برؤيتها مطلقُ المشاهَدةِ المنتظمةِ للسماع والإبصار، أي وإن يشاهِدوا كلَّ آيةٍ من الآيات لا يؤمنوا بها على عموم النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائِهم إياها كما هي وهذا كما ترى يؤيد كونَ الصرفِ بمعنى الطبع وقوله تعالى: { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حكمه أي لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلُكون سبـيله أصلاً لاستيلاء الشيطنةِ عليهم ومطبوعيّتِهم على الانحراف والزيغ، وقرىء بفتحتين وقرىء الرشادِ وثلاثتُها لغات كالسُّقْم والسقام { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } أي يختارونه لأنفسهم مسلَكاً مستمراً لا يكادون يعدِلون عنه لموافقته لأهوائهم الباطلةِ وإفضائه بهم إلى شهواتهم { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من تكبُّرهم وعدمِ إيمانهم بشيء من الآيات وإعراضِهم عن سبـيل الرشدِ وإقبالِهم التامّ إلى سبـيل الغيِّ، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: { بِأَنَّهُمْ } أي حاصلٌ بسبب أنهم { كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } الدالةِ على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادِها { وَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ } لا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل، ويجوز أن يكون إشارةً إلى ما ذُكر من الصرف ولا يمنعُه الإشعارُ بعلّية ما في حيز الصلةِ كيف لا وقد مر أن ذلك في قوله تعالى:

السابقالتالي
2