الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ }

{ قَالَ يَـا مُوسَىٰ } استئنافٌ مَسوقٌ لتسليته عليه الصلاة والسلام من عدم الإجابةِ إلى سؤال الرؤيةِ كأنه قيل: إن منعتُك الرؤيةَ فقد أعطيتك من النعم العظامِ ما لم أعْطِ أحداً من العالمين فاغتنِمْها وثابرْ على شكرها { إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ } أي اخترتُك واتخذتُك صفوةً وآثرتُك { عَلَى ٱلنَّاسِ } أي المعاصِرين لك. وهارونُ وإن كان نبـياً كان مأموراً باتباعه وما كان كَليماً ولا صاحبَ شرعٍ { بِرِسَـٰلَـٰتِي } أي بأسفار التوراةِ وقرىء برسالتي { وَبِكَلَـٰمِي } وبتكليمي إياك بغير واسطة { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } من شرف النبوةِ والحكمة { وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } على ما أُعطيت من جلائل النعمِ، قيل: كان سؤالُ الرؤيةِ يوم عرفةَ وإعطاءُ التوراةِ يومَ النحر { وَكَتَبْنَا لَهُ فِى ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء } أي مما يحتاجون إليه من أمور دينِهم { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } بدلٌ من الجارّ والمجرور أي كتبنا له كلَّ شيءٍ من المواعظ وتفصيلِ الأحكام، واختُلف في عدد الألواحِ وفي جوهرها ومقدارِها فقيل: إنها كانت عشَرةَ ألواحٍ وقيل: سبعةً وقيل: لوحين وأنها كانت من زُمُرُّذَةٍ جاء بها جبريلُ عليه السلام وقيل: من زَبَرْجَدةٍ خضراءَ أو ياقوتةٍ حمراءَ. وقيل: أمر الله تعالى موسى بقطعها من صخرة صمّاءَ ليَّنها له فقطعها بـيده وشققها بأصابعه. وعن الحسن رضي الله عنه كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراةُ وأن طولَها كان عشَرةَ أذرُع. وقيل: أُنزلت التوراةُ وهي سبعون وِقْرَ بعيرٍ يقرأ الجزءُ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعةُ نفرٍ: موسى ويوشعُ وعُزيرٌ وعيسى عليهم السلام. وعن مقاتل رضي الله عنه كُتب في الألواح إني أنا الله الرحمٰنُ الرحيم لا تشرِكوا بـي شيئاً ولا تقطعوا السبـيلَ ولا تزْنوا ولا تعقُّوا الوالدين { فَخُذْهَا } على إضمار قولٍ معطوف على كتبنا أي فقلنا خذها { بِقُوَّةٍ } بجدٍّ وعزيمة وقيل: هو بدلٌ من قوله تعالى: { فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ } والضميرُ للألواح أو لكل شيءٍ لأنه بمعنى الأشياء أو للرسالة أو للتوراة.

{ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي بأحسنِ ما فيها كالعفو والصبر لالإضافة إلى الاقتصاص والانتصارِ على طريقة الندبِ والحثِّ على اختيار الأفضل كما في قوله تعالى:وَٱتَّبِعُـواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُـمْ } [الزمر: 55] أو بواجباتها فإنها أحسنُ من المباح، وقيل: المعنى يأخذوا بها، و(أحسن) صلةٌ. قال قُطرُب: أي بحسَنها وكلُّها حسنٌ كقوله تعالى:وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت: 45] وقيل: هو أن تُحمل الكلمةُ المحتملةُ لمعنيـين أو لمعان على أشبه محتمَلاتِها بالحق وأقربِها إلى الصواب { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى قومه عليه الصلاة والسلام بطريق الالتفاتِ حملاً لهم على الجد في الامتثال بنا أُمروا به، إما على نهج الوعيدِ والترهيب ـ على أن المرادَ بدار الفاسقين أرضَ مصرَ وديارُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم فإن رؤيتها وهي خاليةٌ عن أهلها خاويةٌ على عروشها موجبةٌ للاعتبار والانزجارِ عن مثل أعمالِ أهلِها كيلا يحِلَّ بهم ما حل بأولئك ـ وإما على نهج الوعدِ والترغيبِ على أن المرادَ بدار الفاسقين إما أرضُ مصرَ خاصةً أو مع أرض الجبابرةِ والعمالقةِ بالشام فإنها أيضاً مما أتيح لبني إسرائيلَ وكُتب لهم حسبما ينطِق به قولُه عز وجل:

السابقالتالي
2