الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } * { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }

{ قَالُواْ } أي بنو إسرائيلَ { أُوذِينَا } أي من جهة فرعونَ { مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا } أي بالرسالة، يعنون بذلك قتلَ أبنائِهم قبل مولدِ موسى عليه الصلاة والسلام وبعدَه { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي رسولاً، يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتلِ الأبناءِ وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجَوْر والظلمِ والعذاب، وأما ما كانوا يُستعبَدون به ويُمتهنون فيه من أنواع الخَدَم والمِهَن كما قيل فليس مما يلحقهم بواسطته عليه السلام فليس لذكره كثيرُ ملابسة بالمقام { قَالَ } أي موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى شدةَ جَزَعِهم مما شاهدوه مسلياً لهم بالتصريح بما لَوَّح به في قوله: إن الأرض لله، الخ { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } الذي فعل بكم ما فعل وتوعّدكم بإعادته { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلأَرْضِ } أي يجعلَكم خلفاءَ في أرض مصرَ { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أحسناً أم قبـيحاً فيجازيَكم حسبما يظهر منكم من الأعمال، وفيه تأكيدٌ للتسلية وتحقيقٌ للأمر. قيل: لعل الإتيانَ بفعل الطمع لعدم الجزمِ منه عليه السلام بأنهم هم المستخلَفون بأعيانهم أو أولادُهم، فقد روي أن مصرَ إنما فتحت في زمن داودَ عليه السلام ولا يساعده قوله تعالى:وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا } فإن المتبادرَ استخلافُ أنفسِ المستضعفين لا استخلافُ أولادِهم، وإنما مجيءُ فعلِ الطمعِ للجري على سنن الكبرياء.

{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسّنِينَ } شروعٌ في تفصيل مبادي الهلاكِ الموعودِ وإيذانٌ بأنه تعالى لم يُمهِلْهم بعد ذلك ولم يكونوا في خفْضٍ ودَعَةٍ بل رُتّبت أسبابُ هلاكِهم فتحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذابُ الاستئصالِ، وتصديرُ الجملة بالقسم لإظهار الاعتناءِ بمضمونها، والسنونَ جمعُ سنة والمرادُ بها عامُ القحطِ وفيها لغتانِ أشهرُهما إجراؤها مُجرى المذكرِ السالمِ فيرفع بالواو ويُنصَب ويُجرُّ بالياء ويحذف نونُه بالإضافة. واللغةُ الثانية إجراءُ الإعراب على النون ولكن مع الياء خاصةً إما بإثبات تنوينِها أو بحذفه. قال الفراء: هي في هذه اللغةِ مصروفةٌ عند بني عامرٍ وغيرُ مصروفةٍ عند بني تميم، ووجهُ حذف التنوينِ التخفيفُ وحينئذ لا يُحذف النونُ للإضافة وعلى ذلك جاء قوله الشاعر:
دعانيَ من نجدٍ فإن سنينَه   لعِبْنَ بنا شيباً وشيَّبْننا مُرْدا
وجاء الحديث: " اللهم اجعلْها عليهم سنينَ كسِني يوسُفَ " ، وسنينَ كسنينِ يوسف باللغتين { وَنَقْصٍ مّن ٱلثَّمَرَاتِ } بإصابة العاهات. عن كعبٍ يأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلةُ إلا ثمرةً، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أما السنونَ فكانت لباديتهم وأهلِ ماشيتِهم وأما نقصُ الثمرات فكان في أمصارهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } كي يتذكروا ويتعظوا بذلك ويقِفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجروا عما هم عليه من العُتوِّ والعناد. قال الزجاج: إن أحوالَ الشدةِ ترقِّقُ القلوب وترغّب فيما عند الله عز وجل وفي الرجوع إليه تعالى، ألا يُرى إلى قوله تعالى:وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } [فصلت: 51] وقد مر تحقيقُ القول في لعل وفي محلها في تفسير قوله تعالى:لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } في أوائل سورة البقرة.