الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ }

{ وَلَقَدْ مَكَّنَّـٰكُمْ فِى ٱلأَرْضِ } لما أمر الله سبحانه أهلَ مكةَ باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيرِه وبـيّن لهم وخامةَ عاقبتِه بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلّد في الآخرة ذكّرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبةِ للشكر ترغيباً في الامتثال بالأمر والنهي إثرَ ترهيبِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ } المعايشُ جمعُ معيشةٍ وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشاربِ وغيرِها، أو ما يُتوصَّل به إلى ذلك والوجهُ في قراءته إخلاصُ الياء وعن ابن عامرٍ أنه همزةٌ تشبـيهاً له بصحائف ومدائن، والجعلُ بمعنى الإنشاء والإبداع، أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعِكم فيها أسباباً تعيشون بها، وكلُّ واحد من الظرفين متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالاً من مفعوله المُنكّر، إذ لو تأخر لكان صفةً له وتقديمُهما على المفعول من أن حقهما التأخيرُ عنه لما مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخر، فإن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيما عند كونِ المقدم منبئاً عن منفعة للسامع تبقىٰ مترقبةً لورود المؤخَّرِ فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّن، وأما تقديمُ اللامِ على في فلما أنه المنبىءُ عما ذُكر من المنفعة فالاعتناءُ بشأنه أتمُّ والمسارعةُ إلى ذكره أهمّ.

هذا وقيل: إن الجعلَ متعدَ إلى مفعولين ثانيهما أحدُ الظرفين على أنه مستقر، قُدّم على الأول، والظرفُ الآخَرُ إما لغوٌ متعلقٌ بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالاً من المفعول الأولِ كما مر، وأنت خبـيرٌ بأنه لا فائدةَ معتدٌّ بها في الإخبار بجعل المعايشِ حاصلةً لهم أو حاصلةً في الأرض، وقولُه تعالى: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي تلك النعمةَ، تذيـيلٌ مَسوقٌ لبـيان سوءِ حالِ المخاطبـين وتحذيرِهم وبقيةُ الكلامِ فيه عينُ ما مر في تفسير قوله تعالى:مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف، الآية 3].

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ } تذكيرٌ لنعمة عظيمةٍ فائضةٍ على آدمَ عليه السلام ساريةٍ إلى ذريته موجبةٍ لشكرهم كافةً، وتأخيرُه عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكينِ إما لأنها فائضةٌ على المخاطَبـين بالذات وهذه بالواسطة، وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمةٌ مستقلةٌ مستوجِبةٌ للشكر على حيالها، فإن رعايةَ الترتيبِ الوقوعيِّ ربما تؤدِّي إلى توهّم عدِّ الكلِّ نعمةً واحدةً كما ذكر في قصة آدمَ. وتصديرُ الجملتين بالقسم وحرفِ التحقيقِ لإظهار كمالِ العناية بمضمونها، وإنما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبـين مع أن المرادَ بهما خلقُ آدم عليه السلام وتصويرُه حتماً توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه عليه السلام وتصويرِه لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام كسجود الملائكةِ له عليه السلام بل من الأمور الساريةِ إلى ذريته جميعاً إذ الكلُّ مخلوقٌ في ضمن خلقِه على نمطه ومصنوعٌ على شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقُه وتصويرُه، أي خلقنا أباكم آدمَ طيناً غيرَ مُصوَّرٍ ثم صوَّرناه أبدعَ تصويرٍ وأحسنَ تقويمٍ سارَ إليكم جميعاً { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } صريحٌ في أنه ورد بعد خلقِه عليه الصلاة والسلام وتسويتِه ونفخِ الروحِ فيه أمرٌ مُنجَزٌ غيرُ الأمر المعلَّق الواردِ قبل ذلك بقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3