الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ } * { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }

{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى الأنبـياء المذكورين، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوِّ رُتبتهم، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } أي إلى الحق والنهج المستقيم، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } أي فاختصَّ هداهم بالاقتداء، ولا تقتَدِ بغيرهم والمرادُ بهداهم طريقتُهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيدِه وأصولِ الدين دون الشرائعِ القابلةِ للنسخ، فإنها بعد النسخ لا تبقى هُدىً والهاء في (اقتده) للوقف حقها أن تسقط في الدّرْج، واستُحسن إثباتُها فيه أيضاً إجراءً له مُجرى الوقفِ واقتداءً بالإمام، وقرىء بإشباعها على أنها كناية المصدر.

{ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي على القرآن أو على التبليغ، فإن مَساقَ الكلامِ يدل عليهما وإن لم يَجْرِ ذكرُهما { أَجْراً } من جهتكم كما لم يسألْه مَنْ قبلي من الأنبـياء عليهم السلام، وهذا من جملة ما أُمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه { إِنْ هُوَ } أي ما القرآنُ { إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَـٰلَمِينَ } أي عظةٌ وتذكيرٌ لهم كافةً من جهته سبحانه فلا يختَصُّ بقوم دون آخرين.

{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ } لما بـيَّن شأنَ القرآنِ العظيم وأنه نعمةٌ جليلةٌ منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطَقَ به قولُه تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء، الآية 107] عقّب ذلك ببـيان غمْطِهم إياها، وكفرِهم بها على وجْهٍ سرَى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلٰهية، وأصلُ القدْر السبْرُ والحزْرُ، يقال: قدَر الشيء يقدرُه بالضم قدْراً إذا سبَره وحزَره ليعرِف مقداره ثم استُعمل في معرفة الشيء في مقداره وأحوالِه وأوصافِه.

وقوله تعالى: { حَقَّ قَدْرِهِ } نُصب على المصدرية، وهو في الأصل صفةٌ للمصدر أي قدْرَه الحقَّ، فلما أضيف إلى موصوفه انتصبَ على ما كان ينتصبُ عليه موصوفُه، أي ما عرفوه تعالى حقَّ معرفتِه في اللُطف بعباده والرحمةِ عليهم، ولم يُراعوا حقوقَه تعالى في ذلك، بل أخلّوا بها إخلالاً { إِذْ قَالُواْ } منكرين لبِعثة الرسلِ وإنزالِ الكتُب كافرين بنعمته الجليلةِ فيهمامَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء } [آل عمران، الآية 32] فنفىٰ معرفتَهم لقَدْره سبحانه كنايةً عن حطِّهم لقدرِه الجليل ووصفهم له تعالى بنقيضِ نعتِه الجميل كما أن نفيَ المحبةِ في مثل { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَـٰفِرِينَ } كنايةٌ عن البغض والسُخط، وإلا فنفيُ معرفةِ قدرِه تعالى يتحقق مع عدم التعرُّض لحطِه، بل مع السعْي في تحصيل المعرفةِ كما في قول مَن يناجي ـ مستقصِراً لمعرفته وعبادته ـ: سبحانك ما عرَفناك حقَّ معرفتِك، وما عبدناك حقَّ عبادتك. أو ما عرفوه حقَّ معرفتِه في السُخط على الكفار وشدّةِ بطشِه تعالى بهم حسْبما نطقَ به القرآنُ حين اجترأوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاءِ، فالنفيُ بمعناه الحقيقي والقائلون هم اليهودُ وقد قالوه مبالغةً في إنكار إنزالِ القرآنِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُلزِموا بما لا سبـيلَ إلى إنكاره أصلاً حيث قيل:

{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِى جَاء بِهِ مُوسَىٰ } أي قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقامِ الحجر، و

السابقالتالي
2 3