الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }

وقوله تعالى: { وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ } إما متعلقٌ بما تعلق به (من ذريته) ومن ابتدائية، والمفعول محذوف، أي وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ كثيرةً، وإما معطوف على (كلاًّ) ومن تبعيضية، أي وفضلنا بعضَ آبائهم الخ { وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ } عطفٌ على (فضلنا) أي اصطفيناهم { وَهَدَيْنَـٰهُمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لبـيان ما هُدوا إليه.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من مصادرِ الأفعال المذكورة وقيل: ما دانوا به، وما في ذلك من معنى البُعد لما مر مراراً { هُدَى ٱللَّهِ } الإضافة للتشريف { يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } وهم المستعدّون للهداية والإرشاد، وفيه إشارةٌ إلى أنه تعالى متفضِّلٌ بالهداية { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } أي هؤلاءِ المذكورون { لَحَبِطَ عَنْهُمْ } مع فضلهم وعلوِّ طبقاتِهم { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الأعمال المَرْضيّة الصالحة، فكيف بمَنْ عداهم وهُم هُم وأعمالُهم أعمالُهم { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى المذكورين من الأنبـياء الثمانيةَ عشَرَ، والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافِهم بما ذُكر من الهداية وغيرِها من النعوت الجليلةِ الثابتةِ لهم، وما فيه من معنى البعد لما مرّ غيرَ مرة من الإيذان بعلوِّ طبقتهم وبُعْدِ منزلتهم في الفضل والشرف، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } أي جنسَ الكتاب المتحقِّقِ في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراد الكتب السماوية، والمرادُ بإتيانِه التفهيمُ التام، بما فيه من الحقائق، والتمكينُ من الإحاطةِ بالجلائلِ والدقائق أعمُّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداءً، أو بالإيراث بقاءً، فإن المذكورين لم يُنْزَلْ على كل واحد منهم كتابٌ معين { وَٱلْحُكْمَ } أي الحِكمةَ أو فصلَ الأمر على ما يقتضيه الحقُّ والصواب { وَٱلنُّبُوَّةَ } أي الرسالة { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين { هَـؤُلاء } أي كفارُ قريشٍ فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما يصدِّقه جميعاً، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدَّم والتشويق إلى المؤخّر { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } أي أمَرْنا بمراعاتها ووفَّقْنا للإيمان بها والقيامِ بحقوقها { قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَـٰفِرِينَ } أي في وقت من الأوقات، بل مستمرون على الإيمان بها، فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابـية كما تفيد دوامَ الثبوت كذلك السلبـيةُ تُفيدُ دوامَ النفي بمعونةِ المقام، لا نفيَ الدوام كما حُقِّق في مقامه، قال ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله تعالى عنهما: هم الأنصارُ وأهلُ المدينة، وقيل: أصحابُ النبـي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل مؤمن من بني آدم، وقيل: الفرس، فإن كلاًّ من هؤلاء الطوائف موَفّقون للإيمان بالأنبـياء وبالكتب المُنْزَلة إليهم، عاملون بما فيها من أصول الشرائعِ وفروعِها الباقية في شريعتنا، وبه يتحقق الخروجُ عن عُهدة التوكيل والتكليفِ دون المنسوخة منها، فإنها بانتساخها خارجة عن كونها من أحكامها، وقد مر تحقيقُه في تفسير سورة المائدة.

السابقالتالي
2