الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } عطفٌ على قوله [تعالى]: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا } الخ، فإن عطفَ كلَ من الجملة الفعلية والاسميةِ على الأخرى مما لا نزاعَ في جوازه ولا مَساغ لعطفه على (آتيناها)، لأن له محلاً من الإعراب نصْباً ورفعاً حسبما بُـيِّن من قبلُ، فلو عُطف هذا عليه لكان في حُكمه من الحالية والخبرية المستدعيتين للرابط ولا سبـيلَ إليه هٰهنا { كَلاَّ } مفعولٌ لِمَا بعده، وتقديمُه عليه للقصر، لكن لا بالنسبة إلى غيرهما مطلقاً، بل بالنسبة إلى أحدهما أي كلُّ واحدٍ منهما { هَدَيْنَا } لا أحدَهما دون الآخَر، وتركُ ذكر المُهْدَىٰ إليه لظهور أنه الذي أوتيَ إبراهيمُ وأنهما مقتدِيان به { وَنُوحاً } منصوبٌ بمضمر يفسِّره { هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } أي من قبلِ إبراهيمَ عليه السلام، عَدَّ هُداه نعمةً على إبراهيمَ عليه السلام لأن شرفَ الوالدِ سارٍ إلى الولد { وَمِن ذُرّيَّتِهِ } الضمير لإبراهيمَ، لأن مَساقَ النظمِ الكريم لبـيانِ شؤونه العظيمةِ من إيتاءِ الحجةِ ورفعِ الدرجاتِ وهبةِ الأولادِ الأنبـياءِ وإبقاءِ هذه الكرامةِ في نسله إلى يوم القيامة، كلُّ ذلك لإلزام مَنْ ينتمي إلى ملتِه عليه السلامُ من المشركين واليهود، وقيل: لنوحٍ، لأنه أقربُ، ولأن يونُسَ ولوطاً ليسا من ذرِّية إبراهيمَ، فلو كان الضميرُ له لاختصَّ بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها، وأما المذكورون في الآية الثالثةِ فعطفٌ على (نوحاً) وروي عن ابن عباس أن هؤلاءِ الأنبـياءَ كلَّهم مُضافون إلى ذرِّية إبراهيمَ وإن كان منهم من لم يلْحَقه بولادةٍ من قِبَلِ أمَ ولا أب، لأن لوطاً ابنُ أخي إبراهيم، والعربُ تجعل العمَّ أباً، كما أخبر الله تعالى عن أبناءِ يعقوبَ أنهم قالوا:نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ } [البقرة، الآية 133] مع أن إسماعيل عمُّ يعقوب.

{ دَاوُدَ وَسُلَيْمَـٰنَ } منصوبان بمُضمرٍ مفهومٍ مما سبق وكذا ما عُطف عليهما، وبه يتعلق (من ذريته) وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيلِ من نَوْع طولٍ ربما يُخلُّ تأخيرُه بتجاوب النظم الكريم، أي وهدينا من ذريته داودَ وسليمان { وَأَيُّوبَ } هو ابنُ أموصَ من أسباطِ عيصِ بنِ إسحاقَ { وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ } أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المذكورين أي وهديناهم حال كونهم من ذريته { وَكَذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من جزاءِ إبراهيمَ عليه السلام، ومحلُّ الكاف النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، وأصلُ التقدير { نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ، والتقديمُ للقصر، وقد مر تحقيقُه مراراً، والمرادُ بالمحسنين الجنسُ، وبمماثلة جزائِهم لجزائه عليه السلام مطلقُ المشابهةِ في مقابلةِ الإحسانِ بالإحسان والمكافأةِ بـين الأعمال والأجْزِية من غير بخسٍ لا المماثلةُ من كل وجه، ضرورةَ أن الجزاءَ بكثرةِ الأولاد الأنبـياءِ مما اختص به إبراهيمُ عليه السلام، والأقربُ أن لامَ المحسنين للعهد، وذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل الذي بعده، وهو عبارةٌ عما أوتيَ المذكورون من فنُون الكرامات، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتِه، والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة، ومحلُّها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائناً مثل ذلك الجزاء فقدم الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مُقحَمةٌ للنكتة المذكورة، فصارَ المشارُ إليه نفسَ المصدر المؤكد لا نعتاً له، أي وذلك الجزاءَ البديعَ نجزي المحسنين المذكورين لا جزاءً آخرَ أدنى منه، والإظهارُ في موضع الإضمارِ للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بالأعمال الحسنة على الوجه اللائق الذي هو حُسْنُها الوصفيُّ المقارِنُ لحُسنها الذاتي، وقد فسَّره عليه الصلاة والسلام بقوله:

السابقالتالي
2