الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } * { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } * { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }

وقولُه تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا } كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبـيان أن منهم من لا يدعو الله تعالى عند إتيانِ العذاب أيضاً لتماديهم في الغيِّ والضلال لا يتأثرون بالزواجر التكوينية كما لا يتأثرون بالزواجر التنزيلية. وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار مزيدِ الاهتمام بمضمونه، ومفعول (أرسلنا) محذوف لما أن مقتضىٰ المقام بـيانُ حال المرسَل إليهم لا حالِ المرسلين، أي وبالله لقد أرسلنا رسلاً { إِلَىٰ أُمَمٍ } كثيرة { مِن قَبْلِكَ } أي كائنة من زمان قبلَ زمانك { فَأَخَذْنَـٰهُمْ } أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم { بِٱلْبَأْسَاء } أي بالشدة والفقر { وَٱلضَّرَّاء } أي الضرر والآفات وهما صيغتا تأنيثٍ لا مذكر لهما { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } أي لكي يدعُوا الله تعالى في كشفها بالتضرّع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم { فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه { وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } استدراكٌ عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقةِ القلب والخضوع، مع تحقق ما يدعوهم إليه، ولكن ظهر منهم نقيضُه حيث قستْ قلوبُهم أي استمرتْ على ما هي عليه من القساوة أو ازدادَتْ قساوةً كقولك: لم يُكرِمْني إذ جئتُه ولكن أهانني { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } من الكفر والمعاصي فلم يُخْطِروا ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل: الاستدراك لبـيان أنه لم يكن لهم في ترك التضرُّع عذرٌ سوى قسوةِ قلوبهم والإعجابِ بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم وقوله تعالى: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } عطفٌ على مقدَّر ينساق إليه النظمُ الكريم أي فانهمَكوا فيه ونسُوا ما ذُكَّروا به من البأساء والضّراء، فلما نسوه { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } من فنون النَّعْماء على منهاج الاستدراج، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " مُكِر بالقوم ورب الكعبة " وقرىء (فتّحنا) بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعارٌ بأن التذكر في الجملة غير خالٍ عن النفع، و(حتى) في قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } هي التي يُبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية كما في قوله تعالى:حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَمْرُنَا } [هود، الآية 40] الآية ونظائرِه، وهي مع ذلك غاية لقوله تعالى: { فَتَحْنَا } أو لما يدل هم عليه كأنه قيل: ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطِروا وأشِروا { أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً } أي نزل بهم عذابنا فجأةً ليكون أشدَّ عليهم وقعاً وأفظع هولاً { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } متحسِّرون غاية الحسرة آيسون من كل خير، واجمون، وفي الجملة الاسمية دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة.