الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } * { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ }

{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَـٰتِ رَبّهِمْ } كلام مستأنَفٌ واردٌ لبـيان كفرهم بآيات الله وإعراضِهم عنها بالكلية بعد ما بـيّن في الآية الأولى إشراكَهم بالله سبحانه وإعراضَهم عن بعض آيات التوحيد، وفي الآية الثانية امتراءَهم في البعث وإعراضَهم عن بعض آياته. والالتفاتُ للإشعار بأن ذكْرَ قبائحِهم قد اقتضىٰ أن يضرِبَ عنهم الخطابَ صفحاً، وتعددُ جناياتهم لغيرهم ذماً لهم وتقبـيحاً لحالهم، فما نافية، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، أو للدلالة على الاستمرار التجدُّديّ، و(مِنْ) الأولى مزيدة للاستغراق، والثانيةُ تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورها صفةً لآية، وإضافةُ الآيات إلى اسم الربِّ المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترأوا عليه في حقها. والمراد بها إما الآياتُ التنزيليةُ فإتيانُها نزولُها، والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنية التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله عز وجل المُنْبئةِ عن جَرَيان أحكام ألوهيتِه تعالى على كافة الكائنات، وإحاطةِ علمه بجميع أحوالِ الخلقِ وأعمالهم الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي على وجه التكذيبِ والاستهزاء كما ستقف عليه، وأما الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيب المصنوعاتِ فإتيانُها ظهورُها لهم.

والمعنى ما يظهر لهم آيةٌ من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذُكر من جلائِلِ شؤونه تعالى الشاهدةِ بوحدانيته إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها. المؤدِّي إلى الإيمان بمُكوِّنها، وإيثارُه على أن يقال: إلا أعرضوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى:وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } [القمر، الآية 2] للدَلالة على استمرارهم على الإعراض حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآيات، و(عن) متعلقةٌ (بمعرضين) قُدِّمت عليه مراعاةً للفواصل، والجملة في محل النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعلِه المتخصِّصِ بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما. وأياً ما كان ففيها دلالة بـينةٌ على كمال مسارعتهم إلى الإعراض، وإيقاعِها له في آنِ الإتيان كما يُفصح عنه كلمةُ (لما) في قوله تعالى: { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ } فإن الحق عبارةٌ عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية منه، عبّر عنه بذلك إبانةً لكمال قُبح ما فعلوا به، فإن تكذيب الحقِّ مما لا يُتصوَّرُ صدورُه عن أحد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنها شيءٌ مغايِرٌ له في الحقيقة واقعٌ عَقيبَه أو حاصلٌ بسببه، بل على أن الأول هو عينُ الثاني حقيقة، وإنما الترتيبُ بحسَب التغايُرِ الاعتباري، و(قد) لتحقيق ذلك المعنى في قوله تعالى:فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً } [الفرقان، الآية 4] بعد قوله تعالى:وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءاخَرُونَ }

السابقالتالي
2