الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ }

{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببـيان أنه أمرٌ لا محيدَ عنه أصلاً أي إن كان عظُم عليك وشقَّ إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن الكريم حسبما يُفصح عنه ما حُكي عنهم من تسميتهم له أساطيرَ الأولين وتنائيهم عنه ونهْيِهمُ الناسَ عنه، وقيل: إن الحارثَ بنَ عامرِ بنِ نوفلَ بنِ عبدِ منافٍ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في محضر من قريش، فقال: يا محمدُ ائتنا بآيةٍ من عند الله كما كانت الأنبـياءُ تفعل وأنا أصدقك فأبى الله أن يأتي بآية مما اقترحوا، فأعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك عليه لما أنه عليه الصلاة والسلام كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه، فكان إذا سألوا آيةً يودّ أن يُنزِلها الله تعالى طمعاً في إيمانهم فنزلت، فقوله تعالى: { إِعْرَاضُهُمْ } مرتفعٌ بكبُرَ وتقديم الجار والمجرور عليه لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر، والجملة في محل النصب على أنها خبر لكان مفسرة لاسمها الذي هو ضميرُ الشأن ولا حاجة إلى تقدير قد، وقيل: اسم كان إعراضُهم وكبر جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لها مقدم على اسمها لأنه فعلٌ رافع لضميرٍ مستتر كما هو المشهور وعلى التقديرين فقوله تعالى:

{ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ } الخ، شرطيةٌ أخرى محذوفةُ الجواب وقعتْ جواباً للشرط الأول، والمعنى إن شق عليك إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من البـينات وعدمُ عدِّهم لها من قبـيل الآيات وأحببتَ أن تجيبهم إلى ما سألوه اقتراحاً فإن استطعت { أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً } أي سَرَباً ومنفَذاً { فِي ٱلأَرْضِ } تنفُذ فيه إلى جَوفها { أَوْ سُلَّماً } أي مصعداً { فِى ٱلسَّمَاء } تعرج به فيها { فَتَأْتِيَهُمْ } منهما { بِـئَايَةٍ } مما اقترحوه فافعلْ وقد جُوِّز أن يكون ابتغاؤهما نفسَ الإتيان بالآية فالفاء في (فتأتيَهم) حينئذ تفسيرية وتنوينُ (آية) للتفخيم أي فإن استطعت أن تبتغيَهما فتجعلَ ذلك آيةً لهم فافعل، والظرفان متعلقان بمحذوفين هما نعتان (لِنفقاً وسلماً) والأول لمجرد التأكيد إذ النفقُ لا يكون إلا في الأرض، أو بتبتغي، وقد جُوِّز تعلقُهما بمحذوف وقع حالاً من فاعل تبتغي أي أن تبتغي نفقاً كائناً في الأرض أو سلماً كائناً في السماء، وفيه من الدلالة على تبالُغِ حِرْصِه عليه الصلاة والسلام على إسلام قومه وتراميه إلى حيث لو قدَر على أن يأتيَ بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاءً لإيمانهم ما لا يخفى، وإيثار الابتغاءِ على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذُكر من النفق والسُلّم مما لا يُستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاذه.

{ وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } أي لو شاء الله تعالى أن يجمعهم على ما أنتم عليه من الهُدى لفعله بأن يوقِّفهم للإتيان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعدم صَرفِ اختيارِهم إلى جانب الهُدى مع تمكنِّهم التامِّ منه في مشاهدتهم للآياتِ الداعية إليه لا أنه تعالى لم يوقِّفْهم له مع توجُّهِهِم إلى تحصيله.

السابقالتالي
2