الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } إضرابٌ عما يُنْبىءُ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقةٍ ناشئة عن رغبةٍ في الإيمان وسَوْقٍ إلى تحصيله والاتصافِ به بل لأنه ظهرَ لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهيةِ الدهياء وظنوا أنهم مُواقِعوها فلِخَوْفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النارُ التي وُقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلامُ لتهويل أمرها والتعجبِ من فظاعة حالِ الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبُهم بها، فإن التكذيبَ بالشيء كفر به وإخفاءٌ له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل:هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى يُكَذّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [الرحمن، الآية 43] وقوله تعالى:هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } [الطور، الآية 14] مع كونه أنسبَ بما قبله من قولهم:وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا } [الأنعام، الآية 27] لمراعاة ما في مقابلته من البُدُوّ، هذا هو الذي تستدعيه جزالةُ النظم الكريم، وأما ما قيل من أن المراد بما يُخفون كفرُهم ومعاصيهم أو قبائحُهم وفضائحُهم التي كانوا يكتُمونها من الناس فتظهرُ في صُحُفهم وبشهادة جوارحِهم عليهم أو شركِهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم:وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام، الآية 23] ثم يظهر بما ذُكر من شهادة الجوارحِ عليهم أو ما أخفاه رؤساءُ الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابـين من صحة نبوةِ النبـي عليه الصلاة والسلام ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم، على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص، أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوعُ للمنافقين، فبعدَ الإغضاءِ عما في كلَ منها من الاعتساف والاختلال لا سبـيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفت من أن سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيعِ حال أهلها وقد ذُكر وقوفُهم عليها وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يُحيط به الوصفُ، ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببـية ما قبلها لما بعدها، فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببـية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر، وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله، وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبـيل دخولِ البـيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل.

{ وَلَوْ رُدُّواْ } أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنَّوْه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال { لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } من فنون القبائح التي من جملتها التكذيبُ المذكورُ ونسُوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارِهم على الشاهدِ دون الغائب { وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } أي لقومٌ ديدَنُهم الكذِبُ في كل ما يأتون وما يذرون.