الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ }

{ أَوْ تَقُولُواْ } عطفٌ على تقولوا وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب { فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ } { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَـٰبُ } كما أنزل عليهم { لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ } إلى الحق الذي هو المقصِدُ الأقصى أو إلى ما في تضاعيفه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقِها لحِدّة أذهانِنا وثَقابةِ أفهامنا ولذلك تلقّفنا من فنون العلم ـ كالقصص والأخبار والخُطب والأشعار ونحوِ ذلك ـ طرفاً صالحاً ونحن أمّيون، وقوله تعالى: { فَقَدْ جَاءكُمُ } متعلقٌ بمحذوف ينبىء عنه الفاءُ الفصيحةُ إما معللٌ به أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ، وإما شرطٌ له أي إن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزولِ الكتابِ عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم { بَيّنَةً } أي حجةٌ واضحة لا يُكتَنهُ كنهها وقوله تعالى: { مّن رَّبّكُمْ } متعلق بجاءكم أو بمحذوف هو صفةٌ لبـينة أي بـينةٌ كائنةٌ منه تعالى وأياً ما كان ففيه دَلالةٌ على فضلها الإضافي كما أن في تنوينها التفخيميِّ دلالةٌ على فضلها الذاتي وفي التعرض لوصف الربوبـية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيدُ تأكيدٍ لإيجاب الاتباع { وَهُدًى وَرَحْمَةً } عطفٌ على بـينةٌ وتنوينُهما أيضاً تفخيميٌّ عبّر عن القرآن بالبـينة إيذاناً بكمال تمكنِهم من دراسته، ثم بالهدى والرحمة تنبـيهاً على أنه مشتملٌ على ما اشتمل عليه التوراةُ من هداية الناس ورحمتِهم بل هو عينُ الهداية والرحمة.

{ فَمَنْ أَظْلَمُ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيءَ القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجبٌ لغاية أظلمية مَنْ يكذّبه، أي وإذا كان الأمرُ كذلك فمن أظلم { مِمَّن كَذَّبَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } وُضع الموصولُ موضعَ ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصاً على اتصافهم بما في حيز الصلةِ وإشعاراً بعلة الحُكم وإسقاطاً لهم عن رتبة الخطابِ، وعبّر عما جاءهم بآيات الله تهويلاً للأمر وتنبـيهاً على أن تكذيبَ أي آيةٍ كانت من آيات الله تعالى كافٍ في الأظلمية فما ظنُّك بتكذيب القرآن المنطوي على الكل، والمعنى إنكارُ أن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواةِ ونفيها، فإذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلُ منه فالمرادُ به حتماً بحكم العرف الفاشي والاستعمال المطرد أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل، وقد مر مراراً { وَصَدَفَ عَنْهَا } أي صرَفَ الناس عنها فجمعَ بـين الضلال والإضلالِ { سَنَجْزِى ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ } الناسَ { عَنْ آيَـٰتِنَا } وعيدٌ لهم ببـيان جزاء إضلالِهم بحيث يُفهم منه جزاءُ ضلالهم أيضاً، ووضعُ الموصول المُضمر لتحقيق مناطِ الجزاء { سُوء ٱلْعَذَابِ } أي العذابَ السيءَ الشديدَ النكاية { بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } أي بسبب ما كانوا يفعلون من الصَّدْف والصرْف على التجدد والاستمرارِ، وهذا تصريحٌ بما أَشعرَ به إجراءُ الحُكم على الموصول من عِلّية ما في حيز الصلة له.