الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } * { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } * { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه، وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء به ما لا يخفى، وتنوينُ (رسل) للتفخيم والتكثير، و(من) ابتدائية متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرسل، أي وبالله لقد استهزىء برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عددٍ كثير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك، على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه { فَحَاقَ } عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك، فإن معناه يدور على الشمول واللزوم، ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر، والحَيْق ما يشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى: { بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ } أي استهزأوا بهم من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق، وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى: { مَّا كَانُوا بِهِ } للمسارعة إلى بـيان لحوق الشر بهم، و(ما) إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل، أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤون به حيث أُهلكوا لأجله، وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل.

{ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بعد بـيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل بهم خوطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه، وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عما هم عليه، وتكملةً للتسلية بما في ضِمْنه من العِدَة اللطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين، ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ، أي سيروا في الأرض لتعرِفوا أحوال أولئك الأمم { ثُمَّ ٱنْظُرُواْ } أي تفكروا { كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ } وكلمة (ثم) إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنّى إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم، وإما لإبانة ما بـينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر، فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قوله عز وجل:فَٱنظُرُواْ } [سورة آل عمران: الآية 137] الآية، وإما أن الأمر الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها، والثاني لإيجاب النظر في آثارهم، و(ثم) لتُباعِدَ ما بـين الواجب والمباح فلا يناسب المقام، و(كيف) معلِّقةٌ لفعل النظر، ومحلُ الجملة النصبُ بنزع الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال، والعاقبة مصدرٌ كالعافية ونظائرِها، وهي منتهىٰ الأمرِ ومآلُه، ووضعُ المكذبـين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط، مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك.

{ قُلْ } لهم بطريق الإلجاء والتبكيت { لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْض } من العقلاء وغيرِهم، أي لمن الكائناتُ جميعاً خلْقاً ومُلكاً وتصرّفاً؟ وقوله تعالى: { قُل لِلَّهِ } تقريرٌ لهم وتنبـيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى:

السابقالتالي
2