الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لتسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما كان يشاهده من عداوة قريشٍ له عليه الصلاة والسلام وما بنَوْا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيلِ ببـيان أن ذلك ليس مختصاً بل هو أمرٌ ابتُليَ به كلُّ من سبَقك من الأنبـياء عليهم الصلاة والسلام، ومحلُّ الكاف النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أشير إليه بذلك منصوبٌ بفعله المحذوفِ مؤكدٌ لما بعده وذلك إشارةٌ إلى ما يفهم مما قبله أي جعلنا لكل نبـيَ عدواً والتقديمُ على الفعل المذكورِ للقصر المفيدِ للمبالغة أي مثلَ ذلك الجعلِ الذي جعلنا في حقك لك عدواً يُضادُّونك ويضارُّونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائلَ ويدبّرون في إبطال أمرِك مكايدَ جعلنا لكل نبـيَ تقدمَك عدواً فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤُك لا جعلاً أنقصَ منه.

وفيه دليلٌ على أن عداوةَ الكفرةِ للأنبـياء عليهم السلام بخلقه تعالى للابتلاء { شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ } أي مَرَدةَ الفريقين على أن الإضافة بمعنى مِنْ البـيانية، وقيل: هي إضافةُ الصفةِ إلى الموصوف والأصلُ الإنسُ والجنُّ والشياطينُ، وقيل: هي بمعنى اللام أي الشياطين التي للإنس والتي للجن، وهو بدلٌ من عدواً والجعلُ متعدَ إلى واحد أو إلى اثنين وهو أولُ مفعوليْه قُدِّم عليه الثاني مسارعةً إلى بـيان العداوةِ، واللام على التقديرين متعلقةٌ بالجعل أو بمحذوف هو حالٌ من عدواً، وقوله تعالى: { يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبـيان أحكامِ عداوتِهم، وتحقيقُ وجهِ الشبهِ بـين المشبهِ والمشبَّه به، أو حالٌ من الشياطين أو نعتٌ لعدواً، وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى فإنه عبارةٌ عن الأعداء كما في قوله: [الطويل]
إذا أنا لم أنفعْ صديقي بودّه   فإن عدوِّي لم يضُرَّهمو بغضي
والوحيُ عبارةٌ عن الإيماء والقول السريعِ، أي يُلقي ويوسوس شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنسِ، أو بعضُ كلَ من الفريقين إلى بعض آخَرَ { زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ } أي المموَّهَ منه المزيَّنَ ظاهرُه الباطلَ باطنُه. من زَخْرفه إذا زيّنه. { غُرُوراً } مفعول له ليوحي أي ليغُرّوهم، أو مصدرٌ في موقع الحال أي غارّين أو مصدرٌ مؤكد لفعل مقدرٍ هو حال من فاعل يوحي أي يغرُّون غروراً { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ } رجوعٌ إلى بـيان الشؤونِ الجاريةِ بـينه صلى الله عليه وسلم وبـين قومِه المفهومةِ من حكاية ما جرى بـين الأنبـياءِ عليهم السلام وبـين أُممِهم كما ينبىء عنه الالتفاتُ، والتعرُّضُ لوصف الربوبـيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم المُعرِبة عن كمال اللطفِ في التسلية أي ولو شاء ربُّك عدمَ الأمورِ المذكورةِ لا إيمانَهم كما قيل فإن القاعدةَ المستمرةَ أن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف عند وقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وهو قوله تعالى: { مَّا فَعَلُوهُ } أي ما فعلوا ما ذكر من عداوتك، وإيحاءِ بعضهم إلى بعض مزخرفاتِ الأقاويلِ الباطلةِ المتعلقةِ بأمرك خاصة لا بما يعمّه وأمورَ الأنبـياءِ عليهم السلام أيضاً كما قيل فإن قوله تعالى: { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } صريحٌ في أن المرادَ بهم الكفرةُ المعاصِرون له عليه الصلاة والسلام أي إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتِك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاترُكْهم وافتراءَهم أو ما يفترونه من أنواع المكايدِ فإن لهم في ذلك عقوباتٍ شديدةً ولك عواقبُ حميدةٌ لابتناء مشيئتِه تعالى على الحِكَم البالغة البتة.