الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } * { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } * { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } البصرُ حاسةُ النظرِ، وقد تطلق على العين من حيث أنها محلُّها، وإدراكُ الشيءِ عبارةٌ عن الوصول إليه والإحاطةِ به أي لا تصِل إليه الأبصارُ ولا تُحيط به كما قال سعيد بن المسيِّب، وقال عطاء: كلّتْ أبصارُ المخلوقين عن الإحاطة به فلا مُتمسَّك فيه لمنكري الرؤيةِ على الإطلاق. وقد روي عن ابن عباس ومقاتل رضي الله عنهم: لا تدركه الأبصارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَـٰرَ } أي يحيطُ بها علمُه إذ لا تخفىٰ عليه خافيةٌ { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } فيدرك ما لا تدركه الأبصارُ، ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمين السابقين على طريقة اللفِّ أي لا تدركه الأبصارُ لأنه اللطيفُ وهو يدرك الأبصارَ لأنه الخبـيرُ فيكون اللطيفُ مستفاداً من مقابل الكثيفِ لما لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها.

وقوله تعالى: { قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } استئنافٌ وارد على لسان النبـي عليه الصلاة والسلام، والبصائرُ جمعُ بصيرةٍ وهي النورُ الذي به تستبصِرُ النفسُ كما أن البصرَ نورٌ به تبصِرُ العين، والمرادُ بها الآيةُ الواردةُ هٰهنا أو جميعُ الآيةِ المنتظمةِ لها انتظاماً أولياً، ومن لابتداء الغايةِ مجازاً سواءٌ تعلقت بجاء أو بمحذوف هو صفةٌ لبصائرُ، والتعرضُ لعنوان الربوبـيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطبـين لإظهار كمالِ اللطفِ بهم أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلِّغِكم إلى كمالكم اللائقِ بكم من الوحي الناطقِ بالحق والصوابِ ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائرُ كائنةٌ من ربكم { فَمَنْ أَبْصَرَ } أي الحقَّ بتلك البصائرِ وآمن به { فَلِنَفْسِهِ } أي فلنفسه أبصر، أو فإبصارُه لنفسه لأن نفعَه مخصوصٌ بها { وَمَنْ عَمِيَ } أي ومن لم يبصر الحقَّ بعد ما ظهر له بتلك البصائرِ ظهوراً بـيِّناً وضلَّ عنه، وإنما عبّر عنه بالعمىٰ تقبـيحاً له وتنفيراً عنه { فَعَلَيْهَا } أي فعليها عمِي أو فعَماهُ عليها أو وبالُ عملِه { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } وإنما أنا منذر، والله هو الذي يحفظ أعمالَكم ويجازيكم عليها.

{ وَكَذٰلِكَ نُصَرّفُ ٱلآيَـٰتِ } أي مثلَ ذلك التصريفِ البديعِ نصرِّف الآياتِ الدالةَ على المعاني الرائقةِ الكاشفةِ عن الحقائق الفائقةِ لا تصريفاً أدنى منه، وقوله تعالى: { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } علةٌ لفعل قد حذف تعويلاً على دلالة السياقِ عليه، أو وليقولوا درست نفعلُ ما نفعل من التصريفِ المذكورِ، واللامُ للعاقبة، والواو اعتراضيةٌ وقيل: هي عاطفةٌ على علة محذوفةٍ واللام متعلقةٌ بنُصرِّف أي مثلَ ذلك التصريفِ نصرِّف الآياتِ لنُلزِمَهم الحجةَ وليقولوا الخ، وقيل: اللام لامُ الأمرِ، وتنصُره القراءةُ بسكون اللامِ كأنه قيل: وكذلك نصرف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون فإنه لا احتفالَ بهم ولا اعتدادَ بقولهم، وهذا أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراثِ بقولهم ورُدَّ عليه بأن ما بعده يأباه، ومعنى درست قرأتَ وتعلمتَ، وقُرىء دارسْتَ أي دارستَ العلماءَ، ودَرَسَتْ أي تقدمت هذه الآياتُ وعفَت كما قالوا أساطيرُ الأولين ودَرُسَت بضم الراءِ مبالغةً في درَست أي اشتد دروسُها ودُرست على البناء للمفعول بمعنى قُرئت أو عُفِيت ودارَسَتْ وفسروها بدارست اليهودُ محمداً صلى الله عليه وسلم.

السابقالتالي
2