الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }

(مكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى { قُل تَعالُوا أَتلُ }. وهى مائة وخمس وستون آية).

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم }

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } تعليقُ الحمد المعرَّفِ بلام الحقيقة أولاً باسم الذات عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال، وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال، للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ له بذاته، لما مر من اقتضاء اختصاصِ الحقيقة به سبحانه، لاقتصار جميعِ أفرادِها عليه بالطريق البرهاني، ووصفه تعالى ثانياً بما يُنْبىء عن تفصيل بعض موجِباته المنتظمةِ في سلك الإجمالِ من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال، من قوله عز وجل: { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } للتنبـيه على استحقاقه تعالى له واستقلالِه به باعتبار أفعالِه العِظام، وآلائِه الجِسام أيضاً. وتخصيصُ خلقِهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية، التي أجلُها نعمةُ الوجودِ الكافية في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود، فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية، المنوطِ بها مصالحُ العباد في المعاش والمعاد؟ أي أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق، منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار، من تعاجيب العبر والآثار، تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار. وجمعُ السموات لظهور تعدّدِ طبقاتِها واختلاف آثارها وحركاتِها، وتقديمُها لشرفها وعلوِّ مكانها وتقدُّمها وجوداً على الأرض كما هي.

{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } عطْفٌ على (خَلَق) مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما، داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمد، فكما أن خلقَ السموات والأرضِ وما بـينهما ـ لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلة ـ موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا، كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما، والجعلُ هو الإنشاءُ والإبداع كالخلق، خلا أن ذلك مختصٌّ بالإنشاء التكوينيِّ، وفيه معنى التقدير والتسوية، وهذا عام له كما في الآية الكريمة، والتشريعيَّ أيضا كما في قوله تعالى:مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } [المائدة، الآية 103] الآية. وأياً ما كان فهو إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأن يكونَ فيه، أوْ له، أوْ منه، أو نحوُ ذلك، ملابسةٌ مصحِّحةٌ لأن يتوسَّطَ بـينهما شيءٌ من الظروف لغواً كان أو مستقراً، لكن لا على أن يكونَ عُمدةً في الكلام بل قيداً فيه، كما في قوله عز وجل:وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } [الفرقان، الآية 53] وقوله تعالى:وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } [فصلت، الآية 10] وقوله تعالى:وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [النساء، الآية 75] الآية، فإن كل واحد من هذه الظروف، إما متعلقٌ بنفس الجعل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من مفعولِه تقدّمت عليه لكونه نكرة، وأياً ما كان فهو قيدٌ في الكلام حتى إذا اقتضىٰ الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكون الجعلُ متعدياً إلى اثنين هو ثانيهما، كما في قوله تعالى:

السابقالتالي
2