الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب، وقرىء (لا تكونُ) بالرفع على أنّ أنْ هي المخففة من أنّ، واسمها ضمير الشأن المحذوف، وأصله أنه لا تكون فتنةٌ، وتعليقُ فعل الحُسْبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته، و(أن) بما في حيِّزها سادٌّ مَسدَّ مفعوليه.

{ فَعَمُواْ } عطف على (حسِبوا) والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة وبـينوا لهم مناهجه الواضحة { وَصَمُّواْ } عن استماع الحق الذي ألقَوْه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء، وقيل: حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل، فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار { ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ دهراً طويلاً تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكاً عظيماً من ملوك فارسَ إلى بـيت المقدس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكناف فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسنَ ما كانوا عليه، وقيل: لما ورث بَهْمنُ بنُ اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسُفَ ألقى الله عز وجل في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر فقامت فيهم الأنبـياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى:ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } [الإسراء، الآية 6] وأما ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقام ولم يُسنِد التوبةَ إليهم كسائر أحوالهم من الحُسبان والعمَى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بـيان توبته تعالى عليهم تمهيداً لبـيان نقضهم إياها بقوله تعالى: { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيـى وقصدُهم قتلَ عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره، فإن فنون الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي عنهم هٰهنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب، وقرىء (عُموا وصُمّوا) بالضم على تقدير أعماهم الله وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نَزَكتَهُ إذا ضربتَه بالنَّيْزَك ورَكَبتَهُ إذا ضربتَه بركبتك، وقوله تعالى: { كَثِيرٌ مّنْهُمْ } بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم.

السابقالتالي
2