الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } * { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }

{ وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } تعجُّبٌ من تحكيمِهم لمن يؤمنون به وبكتابه والحالُ أن الحكم منصوصٌ عليه في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به وتنبـيهٌ على أنهم ما قصَدوا بالتحكيم معرفةَ الحق وإقامةَ الشرع وإنما طلبوا به ما هو أهونُ عليهم وإن لم يكن ذلك حكمَ الله على زعمهم، فقوله تعالى: { وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ } حالٌ من فاعل يحكّمونك، وقوله تعالى: { فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } حالٌ من التوراة إن جُعِلت مرتفعةً بالظرف، وإن جُعلت مبتدأ فهو حالٌ من ضميرها المستكنِّ في الخبر، وقيل: استئنافٌ مَسوقٌ لبـيانِ أن عندهم ما يُغنيهم عن التحكيم، وتأنيثها لكونها نظيرةَ المؤنث في كلامِهم كموماة ودوداة { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ } عطفٌ على يحكمونك داخلٌ في حكم التعجيب، و(ثُم) للتراخي في الرتبة وقوله تعالى: { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي من بعد ما حكّموك، تصريحٌ بما عُلم قطعاً بتأكيد الاستبعاد والتعجيب، أي ثم يُعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد ما رضوُا بحكمك وقوله تعالى: { وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } تذيـيلٌ مقرِّرٌ لفحوىٰ ما قبله، ووضعُ اسمِ الإشارة موضعَ ضميرِهم للقصد إلى إحضارِهم في الذهن بما وُصفوا به من القبائح إيماءً إلى علة الحُكم وإلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكملَ تميـيز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهَدة، و(ما) فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد درجتهم في العُتُوِّ والمكابرة أي وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين أي بكتابهم، لإعراضهم عنه أولاً، وعن حُكمِك الموافقِ له ثانياً أو بهما، وقيل: وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكماً بهم.

{ إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ } كلام مستأنفٌ سيق لبـيان علوِّ شأن التوراةِ ووجوبِ مراعاة أحكامِها وأنها لم تزل مَرْعيّةً فيما بـين الأنبـياء ومَنْ يقتدي بهم كابراً عن كابر، مقبولةً لكل أحد من الحكام والمتحاكمين محفوظةً عن المخالفة والتبديل تحقيقاً لما وُصف به المحرِّفون من عدم إيمانهم بها، وتقريراً لكفرهم وظلمهم، وقوله تعالى: { فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } حالٌ من التوراة، فإن ما فيها من الشرائع والأحكامِ ـ من حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا مَحيدَ عنه ـ هدىً ومن حيث إظهارُها وكشفُها نورُ ما استَبْهَم من الأحكام وما يتعلَّق بها من الأمور المستورةِ بظلمات الجهل، وقوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ } أي أنبـياءُ بني إسرائيلَ، وقيل: موسى ومَنْ بعده من الأنبـياء، جملةٌ مستأنفة مبـينةٌ لرِفعةِ رتبتِها وسُمُوِّ طبقتها، وقد جوَّز كونَه حالاً من التوراة فيكون حالاً مقدرة، أي يحكُمون بأحكامها ويحمِلون الناس عليها، وبه تمسك مَنْ ذهب إلى أن شريعةَ مَنْ قبلَنا شريعةٌ لنا ما لم تُنْسَخْ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفاعل لما مر مراراً من الاعتناء بشأن المقدَّم والتشويق إلى المؤخَّر، ولأن في المؤخَّر وما يتعلق به نوعَ طولٍ ربما يُخِلّ تقديمُه بتجاوُب أطرافِ النظم الكريم، وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } صفة أجريت على النبـيـين على سبـيل المدح دون التخصيص والتوضيح، لكن لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة، فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعاً، فيكون وصفُهم به بعد وصفِهم بها تنزلاً من الأعلى إلى الأدنى، بل لتنويه شأن الصفة فإن إبرازَ وصفٍ في معرِض مدح العظماء مُنبىءٌ عن عِظَم قدرْ الوصْفِ لا محالة كما في وصف الأنبـياءِ بالصلاحِ ووصفِ الملائكة بالإيمان عليهم السلام، ولذلك قيل: أوصافُ الأشراف أشرافُ الأوصاف، وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريضٌ باليهود وأنهم بمعزِل من الإسلام، والاقتداءُ بدين الأنبـياء عليهم السلام لا سيما مع ملاحظة ما وُصفوا به في قوله تعالى.

السابقالتالي
2 3