الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

{ يأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } خُوطب عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للتشريفِ والإشعارِ بما يوجب عدمَ الحزن، والمسارعةُ في الشيء الوقوعُ فيه بسرعة ورَغبةً، وإيثارُ كلمة (في) على كلمة (إلى) الواقعة في قوله تعالى:وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } [آل عمران، الآية:133] الخ للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرَحونه، وإنما ينتقِلون بالمسارعة عن بعض فنونِه وأحكامِه إلى بعضٍ آخرَ منها كإظهارِ موالاةِ المشركين، وإبرازِ آثارِ الكيدِ للإسلام ونحوِ ذلك، كما في قوله تعالى:أُوْلَـئِكَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ } [المؤمنون: 61] فإنهم مستمرون على الخير مسارعون في أنواعِه وأفرادِه، والتعبـيرُ عنهم بالموصول للإشارة بما في حيِّز صلتِه إلى مدار الحزن، وهذا وإن كان بحساب الظاهرِ نهياً للكَفَرة عن أن يُحزنوه عليه الصلاة والسلام بمسارعتهم في الكفر لكنه في الحقيقة نهيٌ له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاةِ بهم على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، فإن النهيَ عن أسباب الشيء ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني، وقلعٌ له من أصله، وقد يوجَّه النهيُ إلى المسبَّبِ ويرادُ به النهيُ عن السبب، كما في قوله: لا أُرَينّك هٰهنا يريد نهْيَ مخاطَبه عن الحضور بـين يديه وقرىء (لا يُحزِنْك) من أحزنه منقولاً من حزِن بكسر الزاي وقرىء (يُسرعون) يقال: أسرع فيه الشيبُ أي وقع سريعاً أي لا تحزَنْ ولا تُبالِ بتهافتهم في الكفر بسرعة وقوله تعالى: { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ } بـيان للمسارعين في الكفر، وقيل: متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من فاعل يسارعون، وقيل: من الموصول أي كائنين من الذين الخ، والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا وقوله تعالى: { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } جملةٌ حالية من ضمير (قالوا) وقيل: عطف على قالوا وقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ } عطف على (من الذين قالوا) الخ، وبه يتم بـيانُ المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين: المنافقين واليهود، فقوله تعالى: { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ راجعٍ إلى الفريقين أو إلى المسارعين، وأما رجوعُه إلى الذين هادوا فمُخِلٌّ بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل كما ستقف عليه، وكذا جُعل قولُه: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ } الخ، خبراً على أن قولَه سماعون صفةٌ لمبتدأ محذوف أي ومنهم قومٌ سماعون الخ، لأدائه إلى اختصاص ما عُدِّد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم، فالوجهُ ما ذُكِرَ أولاً أي هم سماعون، واللامُ إما لتقوية العمل وإما لتضمين السماعِ معنى القبول، وإما لامُ كي والمفعولُ محذوف والمعنى هم مبالغون في سماع الكذب، أو في قَبول ما يفتريه أحبارُهم من الكذب على الله سبحانه وتحريفِ كتابه، أو سماعون أخبارَكم وأحاديثَكم ليكذبوا عليكم بأن يمسَخوها بالزيادة والنقص والتبديل والتغيـير، أو أخبارَ الناس وأقاويلَهم الدائرة فيما بـينهم ليكذبوا فيها بأن يرجِعوا بقتل المؤمنين وانكسارِ سراياهم ونحو ذلك مما يُضَرُّ بهم، وأياً ما كان فالجملة مستأنفةٌ جارية مَجرى التعليل للنهي، فإن كونهم سماعين للكذب على الوجوه المذكورة وابتناءَ أمورهم على ما لا أصلَ له من الأباطيل والأراجيف مما يقتضي عدمَ المبالاة بهم وتركَ الاعتداد بما يأتون وما يذرون للقطع بظهور بطلان أكاذيبهم واختلالِ ما بَنَوْا عليها من الأفاعيل الفاسدة المؤدِّية إلى الخزيِ والعذاب كما سيأتي، وقرىء (سمّاعين) للكذب بالنصب على الذم، وقوله تعالى: { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِين } خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدر مقرِّرٌ للأول ومبـينٌ لما هو المراد بالكذب على الوجهين الأولين، واللام مثلُ مَنْ في سمع الله لمن حمِده في الرجوع إلى معنى من أي قبِلَ منه حَمْدَه، والمعنى مبالِغون في قبول كلام قومٍ آخرين، وأما كونُها لامَ التعليل بمعنى سماعون منه عليه الصلاة والسلام لأجل قومٍ آخرين وجَّهوهم عُيوناً ليُبلِّغوهم ما سمعوا منه عليه الصلاة والسلام، أو كونُها متعلقةً بالكذب على أن سماعون الثانيَ مكررٌ للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقومٍ آخرين فلا يكاد يساعده النظمُ الكريم أصلاً وقوله تعالى: { لَمْ يَأْتُوكَ } صفة أخرى لقوم أي لم يُحضروا مجلسك وتجافَوْا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء، قيل: هم يهودُ خيبر والسماعون بنو قُريظة وقوله تعالى: { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ } صفةٌ أخرى لقوم وصِفوا أولاً بمغايَرَتِهم للسماعين تنبـيهاً على استقلالهم وأصالتهم في الرأي والتدبـير، ثم بعدم حضورِهم مجلسَ الرسول عليه الصلاة والسلام إيذاناً بكمال طغيانهم في الضلال، ثم باستمرارهم على التحريف بـياناً لإفراطهم في العتوِّ والمكابرةِ والاجتراء على الافتراء على الله تعالى وتعيـيناً للكذب الذي سمعه السماعون، أي يُميلونه ويُزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها إما لفظاً بإهمالِه أو تغيـيرِ وضعه، وإما معنى بحَمْلِه على غير المراد وإجرائِه في غير موردِه، وقيل: الجملةُ مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعيةٌ عليهم شنائعَهم.

السابقالتالي
2 3 4